نركز جميعاً اليوم على التأثير الصحي للكورونا التي بدأت عملياً في آخر 2019 وهذا منطقي وضروري، لكن في نفس الوقت نهمل النتائج الأخرى التي لا تقل أهمية وخطورة. في آخر أيلول وصل عدد ضحايا الكورونا الى مليون تبعا لجامعة جونز هوبكينز، الجزء الأكبر في الولايات المتحدة (205 ألاف) والبرازيل (141700) والهند (95500) تليها المكسيك وبريطانيا. هذه الدول لم تهمل، لكنها ربما تأخرت في المعالجات أو أن السكان لم يلتزموا الحجر أو الوقايات المناسبة. تؤثر الكورونا على النظام الصحي العام فتوزع القدرات الاستيعابية على الحاجات الآنية مما يسبب اهمال الحاجات الأخرى. أثرت الكورونا على كل المؤشرات الاقتصادية وأحدثت الركود في معظم دول العالم.
في 2020، من المتوقع أن يبلغ الانحدار الاقتصادي 4,9% عالميا منها 8% في الدول الصناعية بينها 10% في دول الوحدة الأوروبية و6% في اليابان. في الدول النامية والناشئة تنحدر الاقتصادات 3% هذه السنة منها سقوط 5% في منطقتنا العربية. من أهم مصادر الانحدار تدني سعر النفط أو بقائه منخفضا بسبب ضعف الطلب. عدم الانضباط في تخفيف الانتاج كما أرادت منظمة أوبيك ساهم أيضا في اضعاف السعر الى حدود 40 دولار للبرميل.
تنحدر التجارة العالمية هذه السنة 12% بسبب ضعف الطلب والتركيز على الصحة في سلعها وخدماتها. أما الفوائد فتبقى منخفضة في حدود الصفر تشجيعا للاستثمارات التي تبقى ضعيفة أو غائبة. ساهمت الكورونا المفاجئة في تقييم فعالية الأنظمة الصحية العامة التي لم تكن مجهزة مما أحدث الخسارات الكبيرة. النتائج القصيرة الأمد للكورونا هي الوفيات والافلاسات والبطالة والديون الكبيرة. تكلفة كبيرة ستبقى نتائجها طويلا.
من النتائج الطويلة الأمد هي تدني المؤشرات الصحية والحياتية العامة التي استثمر العالم فيها بنجاح لعقود كالعمر المرتقب ومستوى المعيشة حيث انتشر الازدهار وتم النجاح في محاربة الفقر والظلم الى حدود مدهشة. ها نحن نعود الى الوراء.
ما هي التأثيرات الطويلة الأمد للكورونا؟
أولا: صحة الانسان حيث المؤشرات الانسانية ستتدنى أكثر أي نسب الخصوبة والانجاب والوفيات وعموما نوعية الحياة. لا نعلم بدقة الانعكاسات المباشرة على الصحة أي على القلب والأعضاء كالكبد والرئة والكلوى وغيرها. من الممكن أن تكون التأثيرات طويلة الأمد لمن أصيب بالكورونا. تنعكس هذه سلبا في الاقتصاد أي تكلفة المعالجات ترتفع وكذلك الانتاجية تتدنى. لا ننكر أن المؤشرات البيئية يمكن أن تتحسن بسبب تدني النشاطات الانتاجية وخاصة الصناعية. يمكن أن تشكل الظروف السيئة الحالية فرصة لتنظيف البيئة والتحول نحو طاقات بعيدة عن الفحم.
ثانيا: التأثيرات الاقتصادية السلبية الكبيرة على التجارة والاستثمارات والبطالة والنمو العالمي والفقر ومستويات المعيشة. غابت الأعراس الكبيرة التي تحصل عموما مرة واحدة في الحياة وتكلف الكثير، كذلك الاحتفالات الشعبية والاجتماعية السخية فتعثر الاقتصاد وغاب الفرح وزاد القلق. كذلك الأمر بالنسبة للاحتمفالات الدينية في الكنائس والمساجد والذي جرى الحد منها في العدد والاستيعاب منعا لانتشار الكورونا. لا ننسى أبدا غياب المباريات الرياضية الشعبية في كرة القدم وكرة السلة لأنها تعتمد على الاحتكاك بين الرياضيين وهذا خطر عليهم وعلى المجتمع.
من الرياضات القليلة التي استمرت هي كرة المضرب التي لا تتطلب تقاربا في المسافة بين الرياضيين علما أن الحضور كان محدد جدا لنفس الأسباب. أما القطاعات الأكثر تضررا عالميا فربما كانت السياحة والسفر وقطاع الطيران حيث النتائج سلبية ومقلقة من ناحية المعالجة والنهوض. كل التوقعات الايجابية للسنوات المقبلة غير دقيقة وربما خاطئة اذ تهدف الى رفع المعنويات أكثر من اعطاء النسب الحقيقية التي يمكن أن تكون سوداء أو رمادية في أفضل الحالات. هنالك تقديرات دولية بأن عدد الفقراء سيرتفع بين 70 و 100 مليون شخص هذه السنة بسبب الكورونا.
ثالثا: لا أحد يعرف اليوم الطرق الفضلى لضرب الكورونا. النظام السويدي الذي تجاهل الموضوع ورفض الحجر لا يظهر أن نتائجه أسوأ من الدول التي كانت رائدة في الحرب الصحية كاسبانيا وايطاليا وغيرهما. الدول الغنية أنفقت أكثر من 10% من ناتجها الاجمالي على محاربة الكورونا مقارنة ب 3% للدول الناشئة و1% فقط للدول الفقيرة. لا شك أن الدول الفقيرة بحاجة الى مساعدة الدول الغنية لتحصن نفسها وتعالج خسائرها. نحارب عدوا قويا ما زلنا نجهل الأسلحة المناسبة للقضاء عليه.
رابعا: التأثيرات الديموغرافية كبيرة أيضا اذ أن اصابات الشباب تختلف عن اصابات المسنين. في الأولى العلاج ربما أسهل وفي الثانية الانعكاس الصحي أخطر ومكلف أكثر. الانعكاس على الأغنياء أخف من الانعكاس على الفقراء حيث في الحالة الأولى تتوافر امكانات المعالجة المالية بينما في الحالية الثانية تؤجل أو تهمل أو لا تعطى الطاقات العلاجية الكافية والمناسبة. من هنا ستتغير الخريطة الديموغرافية الوطنية.
خامسا: هنالك تغيرات كبرى في أسواق العمل، أي العمل من المنزل مما يسمح للسيدات بالبقاء مع الأطفال والقيام بالوظيفة في نفس الوقت. هنالك مؤشرات تؤكد على ارتفاع الانتاجية عبر العمل عن بعد خاصة للأمهات أو لبعض المعاقين الذين لا يستسهلون الحضور الى المكاتب والتجمعات. فرضت الكورونا على كل الدول تطوير شبكات الاتصالات لديها كما تطوير الجانب الرقمي من الاقتصاد لتلبية الحاجات. هذه نتائج جيدة وان أتت من أسباب سلبية، لكنها ترفع من انتاجية المواطن خاصة النصف النسائي عبر العمل من المنزل.
سادسا: تغير النظام التعليمي كثيرا وها نحن نمارس التعليم عن بعد أكثر من الحضور. طبعا نخسر روح التجمعات المهمة جدا للعلاقات بين الطلاب، لكننا نربح الصحة التي تفوق الأمور الأخرى في أهميتها.
سابعا: المشاركة السياسية تغيرت أيضا أي الاقتراع عبر البريد كي لا يتجمع المواطنون للقيام بالواجب الوطني الكبير. يقول الرئيس ترامب أن الاقتراع عن بعد يحمل في طياته الكثير من امكانات التزوير أي يضع الشك في النتائج، لكن هنالك أصوات لا تقل قوة تعتقد بالعكس تماما. كذلك الأمر بالنسبة لعلاقة المواطن مع دولته، حيث تطورت المعاملات بالطرق الرقمية منعا لتوافد المواطنين الى الوزارات والمؤسسات العامة لتحصيل حقوقهم والقيام بالمعاملات الرسمية. آخر تأثيرات الكورونا هي على نتائج الانتخابات الأميركية بعد اصابة ترامب.
يمكن القول أن الحياة لن تكون بعد الكورونا كما قبلها، اذ أهم شيء في حياة الانسان هو التواصل والتجمع والعلاقات الاجتماعية المباشرة وهذا ما منعته الكورونا أو حددته ولن نتخلص من هذا الخوف والحذر بسهولة.