Site icon IMLebanon

مبادرات تُعيد النفَس إلى بلد نفَسه مقطوع

 

الأمن الذاتي يعود إلى مناطق لبنان من باب الصحة

 

“دبروا راسكن” شعار كللت به الدولة اللبنانية مسيرتها منذ عقود وتلقفه المواطنون من دون اعتراض، ليصير نمط حياة يعتمدونه في كل شؤونهم اليومية والعنوان العريض لحياتهم في الأزمات. لقد اعتاد اللبناني ان يولّد خدمات رديفة لخدمات الدولة تحل محلها عند الحاجة، وما اكثرها أوقات الحاجة تلك، وها هو اليوم يبتكر مرة جديدة حلولاً لأعتى مشكلة صحية تواجهه، ويقيم مبادرات صحية فردية تعيد إليه النفس بعد ان عجزت حكومته المنتهية الصلاحية عن تأمينها له.

 

باسم الأمن الذاتي خيضت حروب وشُنت حملات وأقيمت مؤتمرات أعادت الى الدولة هيبتها، هيبة لم تصمد طويلاً أمام الأزمات فعاد الأمن الذاتي ليطل برأسه في كل الاتجاهات. واليوم يبدو وكأنه ارتدى ثوباً صحياً وعاد المواطنون ليقلّعوا “شوكهم بأيديهم” ويتكلوا على أنفسهم او مرجعياتهم الدينية والحزبية ليقفوا في وجه كورونا الذي بات اشرس الأعداء ولا سيما بعدما امتلأت المستشفيات وصار الأوكسجين عملة نادرة يتم التداول بها في السوق السوداء. تجاه هذا الواقع المميت بدأت تظهر هنا وهناك مبادرات فردية لتكون سنداً للمواطن المقهور الذي لم يعد باستطاعته تأمين النفَس.

 

15 مليون ليرة هو المبلغ الذي طلبه أحد مستشفيات البقاع كتأمين لإدخال مريضة كورونا تحتاج الى علاج سريع بعد ان ضاق بها النفس، وقبلها كانت المريضة قد انتظرت لساعتين في مستشفى بقاعي لم يستطع تأمين سرير لها، الى أن اسفرت الاتصالات عن إدخالها الى المستشفى الحكومي في بعلبك. ويروي عماد عماد خال الصبية كيف “تبهدلوا” وتنقلوا بها ليلاً في درجة حرارة 5 تحت الصفر وعلى طرقات خطرة معرضة لعمليات سرقة وتشليح في أي لحظة. ويكمل ابن دير الأحمر روايته قائلاً: “بعد بضعة أيام أصيبت والدتي بضيق التنفس نتيجة الكورونا، وكنت قد سمعت عن شباب في المنطقة تطوعوا للمساعدة، اتصلت بهم ليلاً وعلى الفور قدم ثلاثة منهم وبعد قياس الحرارة والضغط ونسبة الأوكسجين وضعوا لها على الفور قنينة الأوكسجين التي كانت معهم وما هي إلا نصف ساعة حتى ارتاح نفسها وعادت الى طبيعتها. كانت الساعة الواحدة ليلاً والطقلس مثلجاً، بقوا معنا حتى تحسنت حالها ثم عادوا عند الثالثة صباحاً للاطمئنان اليها”.

 

“معك ليبقى النفس”

 

هذه واحدة من المبادرات الإنسانية التي أطلقتها القوى الأهلية في القرى والمناطق. إنهم شباب “جمعية أبناء دير الأحمر” الذين أدركوا صعوبة وخطورة الوضع الصحي في منطقتهم فتنادوا للمساعدة وأطلقوا حملة ضمن بلدتهم نالت كل الدعم المادي من أبناء البلدة ومغتربيها. من رحم المعاناة انطلقوا وبسرعة وضعوا خطة للمساعدة، وتحت شعار “معك ليبقى النَفَس” بدأوا عملهم. بضعة شباب كانوا قد خضعوا لدورات تدريبية مع الصليب الأحمر عادوا وتمرنوا مع مسعف من الصليب الأحمر على التعامل مع الكورونا وكيفية ارتداء الملابس الخاصة وخلعها واتخاذ كل إجراءات الوقاية عند الاقتراب من مصاب وقياس نسبة الأوكسجين في الدم وتركيب قوارير الأوكسجين لمن يحتاجها. وبدأوا مهمتهم كمجموعة صغيرة سرعان ما التف حولها شباب المنطقة ممن يرغب بالمساندة حتى وصل العدد الى 40 شاباً وشابة.

 

بتبرعات أهل المنطقة ومن دون جميل الدولة، استطاع الشباب تأمين 22 قنينة أوكسجين و3 ماكنات تنفس وفق ما يخبرنا رولان جريش منسق الحركة إضافة الى أجهزة لقياس نسبة الأوكسجين في الدم علماً أن سعر قنينة الأوكسجين وصل الى 450$ ينبغي تسديدها “كاش” فيما بلغ سعر ماكنة التنفس 1000$ وبجهود جبارة استطاعوا تأمين القناني بسعر 180$ للواحدة مع كلفة تعبئة تبلغ 20000 ليرة لكل قنينة، وكذلك تم تأمين بدلات الوقاية للفريق المتطوع الذي وضع وقته وجهده في خدمة أهل منطقته. من خلال غروبات الواتساب بدأت القصة تنتشر وصار كل من يحتاج الى مساعدة طارئة يتصل بالأرقام التي وضعتها خلية العمل في تصرفهم. كثيرة كانت الاتصالات من بلدة دير الأحمر ومحيطها، فالإصابات كما في كل المناطق على تزايد ومستشفيات المنطقة قليلة وباتت كلها ممتلئة.

 

ما إن يتم تلقي اتصال يسارع الشباب الى منزل المصاب ليلاً أو نهاراً وقد أمنوا سيارة رابيد خاصة لتنقلاتهم الطارئة فيعملون على تقييم اولي لحالته وتزويده بالأوكسجين إذا احتاجه. يؤكد جريش انهم لم يأخذوا دور الصليب الأحمر وهم لا ينقلون المرضى الى المستشفيات أو يؤمنون لهم أدوية لكنهم يعملون على مساعدتهم في بيوتهم وتزويدهم بأشد ما هم بحاجة إليه أي النفس مع متابعتهم بشكل دوري للتأكد من وضع الأوكسجين وحالتهم العامة. هذه المبادرة التي لم تحتج إلا لأربعة أيام لتوضع على السكة ساهمت في إنقاذ الكثيرين من أبناء منطقة دير الأحمر الذين كان يمكن ان يختنقوا في بيوتهم، ووفرت عليهم جهد التنقل بين المستشفيات و”البهدلة” على الطرقات… لم تأخذ اي طابع سياسي، رغم الانتماء السياسي المعروف للمنطقة، وتلقت الدعم من كل الجهات ومن الأهل في لبنان والاغتراب وباتت مثالاً يحتذى به من قبل العديد من المناطق المجاورة. ويقول جريش رفعنا سقف العمل الاجتماعي الى أعلى مراتب الفعالية والشفافية ومكافأتنا الوحيدة هي أننا استطعنا مساعدة أهلنا في اصعب ظروفهم.

 

غرفة طوارئ بعيداً عن الطوارئ

 

مثال آخر على المبادرات الفردية يطالعنا في منطقة ضبيه وتحديداً في “مشروع القوات السكني”. فالمشروع يضم 200 شقة وعدداً كبيراً من السكان، والقصة بدأت بعد ان توفي أحد الأشخاص اختناقاً حين لم يستطع أهله إدخاله الى المستشفى. يقول زياد قزح رئيس لجنة مالكي العقار 317 “تواصلت مع الشباب في اللجنة وقررنا القيام بمبادرة لمساعدة أهلنا وحمايتهم واستباق المخاطر. اتصلنا بموزع لقوارير الأوكسجين واستطعنا تأمين عدد منها، إلا أن تأمين ساعات لها كان مشكلة أجرينا الاتصالات اللازمة لحلها. وبعدها نظفنا شقة في المشروع وزودناها بخمسة أسرة ووضعنا فيها قوارير الأوكسجين حتى يتم استعمالها عند الحاجة في الحالات الطارئة”.

 

أخذتم مكان المستشفيات إذاً أو مكان الدولة نسأل القزح ؟ فيجيب “لو كانت الدولة قادرة على تأمين أماكن في المستشفيات لكل المصابين لما احتجنا للتدخل. وعملنا يهدف الى مساعدة أبنائنا وناسنا في بيوتهم. لقد أعلمنا القائمقام ونسقنا مع البلديات المجاورة التي باتت تطلب منا المساعدة من وقت الى آخر لكننا اتكلنا على أنفسنا فقط في التمويل وكل تدخل لنا في منزل مصاب يكلفنا مبالغ كبيرة نظراً لتزودنا بالملابس وإجراءات الوقاية الضرورية، كما يرتب علينا مخاطر شخصية نعمل جهدنا لتجنبها. في المشروع عدد من الأطباء نأخذ بمشورتهم ونصائحهم لكن المريض يتواصل مع طبيبه الخاص على مسؤوليته. دورنا يقتصر على تأمين الأوكسجين لمن يحتاجه بالتنسيق مع اللجنة الطبية في المشروع المكونة من أطباء وممرضات حتى نرفع عن كاهلنا أية مسؤولية، لا نؤمّن أدوية ولا متابعة طبية لكننا نؤمن النفَس للناس متى احتاجوه. حتى الآن لم نستقبل في الشقة المجهزة اي مصابين لكنها جاهزة لاستقبال من يشاء ان يحجر نفسه او يتلقى فيها الأوكسجين”.

 

هنا يتبادر الى الأذهان سؤال بديهي، هل يمكن لأي كان تركيب قوارير الأوكسجين وتعديل نسبته ليلائم المريض؟ نقيبة الممرضات والممرضين في لبنان ميرنا ضومط أجابت على سؤالنا قائلة ان الممرضة المجازة لا يمكنها وضع الأوكسجين لمريض إلا بعد استشارة الطبيب فهذا عمل صحي طبي يجب ان يتم بناء على وصفة طبية. ونسألها هل يسمح للممرضات العمل في البيوت لإتمام هذه المهام في ظل تلقي الكثير من المرضى العلاج في البيوت؟ تقول ان التمريض المجتمعي Community Nurses امر معروف وضروري فالممرضات موجودات حيثما تدعو الحاجة إليهن، وقد بدأ عدد من البلديات اللجوء الى الممرضات الموجودات ضمن نطاقه للمساعدة في معالجة المرضى في بيوتهم وتزويدهم بالأوكسجين وقياس نسبته وغيرها من الإجراءات التي يمكن القيام بها في البيت.

 

من جهته كان الأمين العام للصليب الأحمر جورج كتانة قد دعا سابقاً الى وضع ضوابط لاقتناء المواطنين آلات فحص وضخ الأوكسجين في المنازل. وقال في حديث الى تلفزيون الجديد ان البلديات ليست مؤهلة لإعطاء الاوكسجين للمرضى أو إجراءات الإسعافات لا بل يمنع عليهم القيام بالإسعافات التي يقوم بها عادة الصليب الأحمر، ولمعالجة هذا الوضع ثمة اتجاه حالياً بالتعاون مع الجهات المختصة لتعيين طبيب في كل بلدية ليكون مشرفاً على عمليات الإسعاف.

 

من البلديات التي وضعت آلية عمل لمواجهة الكورونا بلدية أنفة الشمالية التي تضم ما يقارب 10000 ساكن ما بين أهلها وساكني المشاريع السياحية فيها ومخيمات اللاجئين السوريين. منذ البداية تقول نائبة رئيس البلدية السيدة لارا عيسى: “وضعنا خلية عمل للتعاطي مع كورونا واليوم ومع تفاقم الأزمة باتت الاحتياجات كثيرة ومختلفة. فالبلدية اشترت 8 أجهزة اوكسجين سعر الواحد منها 1200$ “بالفريش دولار” تكفلت بأربعة منها فيما تكفلت الأيادي البيضاء بالباقي كما تكفل شبان من المنطقة بالحصول على قوارير أوكسجين. ولكن المساعدة لا تقتصر فقط على توفير الأوكسجين للمحتاجين بل مساعدة المصابين على إيجاد سرير في المستشفى من خلال الاتصالات المكثفة مع المستشفيات، وكذلك الضغط لتخفيف قيمة المبلغ المطلوب إيداعه كتأمين للدخول الى المستشفى بالنسبة لمن هم غير قادرين على تأمينه. حتى المصابون الذين يجهلون ما يجب القيام به عند الإصابة وما هي آلية الدخول الى المستشفى، تعمل البلدية على مساعدتهم”. “البلدية حدّك” هو شعار بلدية أنفه التي استطاعت بالتواصل مع الأطباء والممرضات الموجودين في المنطقة لا سيما د. روجيه عيسى تقديم الدعم الطبي للمصابين في بيوتهم، وبالتنسيق مع قائمقام المنطقة كاترين أنجول توفير المساعدة لأهل أنفة وسكانها بطريقة عملية فعالة، في حين انها كسواها من البلديات لم تنل مستحقاتها بعد من الوزارة فيما الجباية قليلة نظراً لامتناع الكثيرين عن دفع متوجباتهم بسبب سوء الأحوال الاقتصادية.

 

وتتعدد المبادرات الفردية بعيداً عن الدولة تحت غطاء حزبي حيناً كما الحزب الاشتراكي الذي أطلق مبادرة Covid Home Care في المتن الأعلى لمساعدة المصابين في بيوتهم، او سياسي مثل الرابطة المارونية التي اعلنت عن تأمين كمية من قوارير الأوكسجين لمن يحتاجها او مثل النائب المستقيل نعمت افرام الذي يعمل عبر مصانعه على تأمين اجهزة تنفس توضع في خدمة المستشفيات. او حتى تحت غطاء مهني كما صرح المنتج صادق الصباح الذي اعلن استعداده للتعاقد مع ممرضين مختصين وأطباء ليكونوا على استعداد لمساعدة اي ممثل او عامل فني يصاب اثناء التصوير لتأمين استمرارية الانتاج الفني قبل شهر رمضان. ففي غياب الدولة كل شيء مضروب باثنين حتى الاستشفاء…