مشكلة التلوث قديمة جداً، والاهمال ليس حديثاً. في سنة 1865، قال الاقتصادي «جوفونز» أن الفحم هو أهم مادة أولية بل فوق كل المواد ويدخل في صلب حياتنا. قال الكاتب فيكتور هوغو في سنة 1840 أن الطبيعة تتكلم بل تتوجع، والانسان لا يصغي. حسنا فعل الرئيس بايدن في تكليف «جون كيري» مهمة البيئة، وهو السياسي المعروف والمرشح الرئاسي السابق. قال كيري أن تكلفة معالجة التلوث البيئي كبيرة جدا، لكنها تبقى أقل بكثير من تكلفة عدم المعالجة. نعلم جميعا أن الولايات المتحدة والصين يطلقان 41% من مجموع اصدارات الغاز الفحمي العالمي وهذا خطير. لذا معالجة مشكلة التلوث تتطلب تعاونا عميقا بين الاقتصادين الكبيرين بسرعة.
هنالك من يقول أن اصلاح المناخ مستحيل ضمن النظام الاقتصادي العالمي الحالي. الموضوع في رأي الخبراء ليس تقنيا بل نظريا وعقائديا. تقول المتخصصة الصحافية «ناومي كلاين» أنه يجب الاستفادة من التغير المناخي السلبي لتغيير النطام الاقتصادي العالمي. بني النظام في رأيها على مقولة أن السوق تعطي الحلول لجميع المشاكل وبالتالي كلما تحررت الأسواق يزدهر الاقتصاد. تقول كلاين أن مشكلة النظام ليس فقط في النظريات التي بني عليها وانما خاصة في الجشع بل الادمان المادي والرغبة في تحقيق أعلى الأرباح مهما كانت التكلفة الاجتماعية. بني الاقتصاد العالمي على استهلاك الفحم ليس بسبب الجهل تجاه البدائل، بل لأن المصالح تقضي باستعمال هذه الطاقة على حساب البيئة وصحة الانسان.
في رأي كلاين، تم اقناع المواطن أن البدائل للفحم مكلفة وربما غير متوافرة وبالتالي الاستمرار بالتلوث الانتاجي لا مفر منه. هل أتت الكورونا من هذه التصرفات غير الأخلاقية على مدى عقود متواصلة؟ تقول كلاين أن الخيار واضح أي نقفز الى الأمام أو نغرق. الخيار بديهي لكن القرارات لم تتخذ بعد على الصعيد العالمي خاصة بعد تجاهل الموضوع من قبل الرئيس ترامب لسنوات أربعة. الحقيقة أن المجتمعات قادرة على التغيير وتمت تغيرات كبرى تقنية في الماضي، لكن الموضوع لم يعد تقنيا فقط بل سياسيا واقتصاديا ويرتكز على بناء نظام عالمي جديد. تقول كلاين أن علينا تغيير طرق الانتاج والاستهلاك، أي عمليا تغيير طريقة حياتنا كي نستطيع انقاذ الكرة الأرضية التي نعيش عليها.
ما يدهش أحيانا هي تصاريح بعض المسؤولين السياسيين تجاه التغير المناخي. قالت «سارا بايلين» مثلا، التي ترشحت للانتخابات الرئاسية الأميركية مع السيناتور جون ماكين ضد الثنائي أوباما – بايدن، أنها تتنشق التلوث والغاز الفحمي وهذا يسعدها ربما ارضاء للملوثين الداعمين لها. لحسن الحظ خسرت الانتخابات وتجنبنا الأسواء. في الحقيقة لم تهتم الدول بالكارثة المناخية الحالية كما اهتمت بالكوارث النقدية والمصرفية التي حصلت سابقا، وهذا يدل على القصور والجهل وربما كان الهدف الحفاظ على المصالح التجارية والمادية الكبيرة.
من الطرق المتبعة اليوم هي تغيرات جزئية في التحسن المناخي وهذا حتما غير كاف ولا يعطي النتائج المتوخاة. تكمن المشكلة ليس فقط في التقنيات وانما في ركائز النظام الاستهلاكي التبذيري والانتاجي الذي كنا نعيش فيه طبعا قبل الكورونا. للأسف ما زال العالم في معظمه يتجاهل المطلوب ليس عجزا بل على الأرجح لأن المصالح المادية تشجع على الانكار. ربما نحتاج عالميا الى نوع من خطة مارشال للأرض أي أموال كبيرة وتكنولوجيا متطورة لبدء المعالجة.
قال «غينار ميردال» الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل أن الاقتصاديين كانوا مشغولين على مدى عقود بالنمو مهما كانت التكلفة وبالتالي أهملوا دراسة المناخ وتأثيراته. لكن ميردال لم يكن متشائما اذ أن العالم مر بظروف سيئة سابقة وعالجها منها تأثيرات الزيادات السكانية الكبيرة وتوافر المواد الأولية والأمراض الكبيرة التي أصابت العالم بالاضافة الى الأزمات المالية الاقتصادية كل عشر سنوات.
من الأخطاء السابقة أن العالم اعتمد على الناتج المحلي الاجمالي لتقييم نجاح أو فشل المجتمعات. كل ما كانت زيادة الناتج السنوية كبيرة، كلما تحسنت أوضاع المجتمعات المادية. لا بد اليوم من ايجاد مؤشرات أخرى تأخذ بعين الاعتبار العوامل الانسانية والمناخية والصحية والاجتماعية والتي دون شك تعطي نتائج أخرى على صعيد النمو النوعي. الدول التي احترمت نموها هي التي وجدت نقل عام فاعل حماية للتلوث وصحة الانسان، كما التي غيرت طرق استهلاكها للأهداف نفسها. هنالك حدود للنمو المادي المتواصل قبل أن تنفجر الأمور. الكورونا هي نتيجة اقتصادية للتصرفات والاهمالات الكبرى على مدى عقود.
المهم اليوم أن انكار وجود تغير مناخي سلبي هو في غاية الخطورة ويظهر أن الذين ينكرون هذا الواقع أصبحوا أقلية وربما غير فاعلة في السياسات والقرارات الدولية. من المحزن القول أن هنالك مصالح مادية كبيرة تدفع نحو انكار وجود التلوث لتملئ جيوبها أكثر بالثروات على حساب صحة المواطنين.
التغير المناخي لا يطال فقط سكان الأرض وفي الدول الصناعية، بل يضرب المحيطات وانتاج الأسماك كما يضرب مياه الشرب والهواء الذي نتنشقه. يؤثر التغير المناخي على سخونة الطقس ويوسع فجوة الدخل في المجتمعات. ما يحزن أيضا هو أن بعض نفايات الشمال ترمى في الجنوب. تنتج المحيطات نصف الأوكسيجين الذي نتنشقه عالميا ويؤمن الطعام لمليارات البشر ويستوعب ربع الغاز الفحمي الذي ينتجه الاقتصاد العالمي. فكيف نرمي النفايات فيه ونبتسم؟ يقيم انتاج المحيطات السنوي بـ 2,5 ألف مليار دولار، وهو مجموع انتاج سلع وخدمات بالاضافة الى النشاطات السياحية والرياضية التي تترافق مع استمرارية مياهه العذبة. يضرب التلوث أيضا انتاجية الأرض الزراعية وسلامة السلع والمواد التي تنتجها مما يؤثر سلبا على صحتنا وصحة أولادنا.
لمحاربة التغير المناخي على المدى الطويل والتخفيف من التلوث، لا بد من القيام بالاجراءات التالية مجتمعة:
أولا: التعليم والتوعية خاصة في المدارس كي نبني مواطنين يفهمون بل يقيمون خطورة الأوضاع. التكنولوجيا وحدها لا تكفي. يجب تغيير الذهنية وطريقة التفكير. طالما أن المواطن يهمل، «فالج لا تعالج» كما نقول بالعامية.
ثانيا: الحفاظ على الثروات الأرضية والمائية عبر الاستثمار فيها للنظافة والانتاجية. لا بد من حماية بعض الأرض والمياه ومنع المواطن من التصرف بها. الحفاظ على المناخ هو استثمار في المستقبل ولا بد من القيام به للمصلحة العامة.
ثالثا: من الضروري ربط المؤسسات الوطنية الجدية المهتمة بالمواضيع البيئية بعضها ببعض مع المؤسسات العالمية أي في الأمم المتحدة وأوروبا لتشكيل جبهة ضغط سياسية وادارية على الحكومات للقيام بواجباتها.