كشفت الكورونا أموراً متعددة كانت موجودة لكنها غير ظاهرة. تبين للرأي العام أن الأنظمة الصحية لم تكن فاعلة كما اعتقد المواطن حتى في أكثر الدول تطورا. الضياع الظاهر في مواجهة الكورونا كان عالميا حتى في أميركا وأوروبا. الأنظمة الصحية كانت ضائعة وغير مستعدة مما سبب الكثير من الفوضى وضياع الوقت الثمين. أظهرت الكورونا غياب وسائل الدفاع الفاعلة عن صحة الانسان، فكان العالم ضعيفا في المواجهة بالرغم من الاستثمارات الهائلة في القطاع الصحي على مدى عقود من الزمن. أظهرت الكورونا أيضا قوة شركات الأدوية وسيطرتها عمليا على القطاع الصحي العالمي من استشفاء وصيدلة وطب وغيرها، وأصبح العالم مرتبطا بشكل وثيق بما تقرر شركات فايزر أو مودرنا أو استرا زينيكا أو غيرها. كل ما بناه الاقتصاد العالمي على مدى عقود تبين أنه ضعيف، فانهار كل شيء خلال سنتين. حلمنا اليوم هو تلقي اللقاح بالرغم من كل شيء بحيث نقوي شبكات الدفاع لدينا في مواجهة الكوفيد 19 الشرير.
تعرف منظمة الصحة العالمية «الصحة» بمجموعة العوامل المترابطة الجسدية والذهنية والنفسية المؤثرة على حياة الانسان. «الصحة» هي حق من حقوق الانسان البديهية وتتأثر بعوامل المناخ وتوافر وتكلفة الغذاء كما بوجود القدرات الصحية الأولية. «الصحة» لا تفترض فقط غياب الأمراض والعاهات، بل هي أكثر بكثير. تحقيق المجتمع الصحي يتطلب مواجهة كل ما يؤثر سلبا على حياة الانسان، بل يفترض أيضا بناء مجتمع منتج حضاري روحي عاطفي وثقافي.
هنالك نوعان من الأمراض المتعارف عليهما وهي المعدية وغير المعدية. نواجه اليوم الفيروس المعدي المتنقل بسرعة وسهولة في المنازل وما بينها، في المجتمعات والدول وما بينها. نواجه مرضاً معدياً لا نملك حتى الآن السلاح الفاعل للقضاء عليه. يتعثر الاقتصاد العالمي لغياب الرؤية الصحية وبسبب عجز القطاع العام والمؤسسات الدولية في معرفة الموضوع بكل جوانبه ومواجهته. مشكلة الأمراض المعدية أن مواجهتها لا يمكن الا أن تكون عالمية، وهنا قلب المشكلة حيث التعاون العالمي ما زال ضعيفا لغياب السياسات المشتركة المناسبة والقدرات القوية والرغبة الواضحة والظاهرة.
هنالك تعثر في توحيد الجهود الدولية بسبب الآنانيات الوطنية الموجودة في معظم القطاعات الأخرى والتي تضر كثيرا في مواجهة مشكلة مشتركة معدية متنقلة كالكورونا. هنالك تحديات كبرى واضحة في توزيع المهمات ضمن القدرات المالية والتقنية والانسانية المتوافرة. مشكلة توزيع النتائج من عناية ولقاحات تطرح نفسها، خاصة تجاه الفقراء والدول الفقيرة كذلك توزيع التكلفة الباهظة على الحكومات. من ينسق؟ منظمة الصحة العالمية يظهر أنها غير قادرة على تحمل هذه المسؤولية لأنها لم تبن مع القدرات الكافية لمواجهة كورونا أو ما يشبهها. لذا يظهر الضياع بوضوح عالميا وضمن الدول نفسها. هنالك ضرورة لتنسيق المعلومات التي تظهر أحيانا أنها متضاربة حتى لا نقول أن بعضها غير واضح أو حتى غير صحيح.
التأثير السلبي الكبير للكورونا لا يقتصر فقط على تدني مستويات الناتج المحلي الاجمالي بدأ من 2020 وحتى اليوم وربما لسنوات مقبلة. مشكلة الكورونا أنها تؤثر على هيكلية الاقتصاد العالمي، أي ضربت العولمة والقطاعات الكبيرة المعولمة كالطيران والسياحة والمطاعم والفنادق وغيرها وربما ساعدت قطاعات أخرى كالاتصالات والتكنولوجيا. أظهرت الكورونا ارتباط الاقتصاد بالأخلاق واستحالة مواجهة الكورونا اذا تصرف العالم بأنانية ودون أخلاق واضحة في الكلام والتنفيذ. الحلول الاقتصادية للأوضاع الصحية لا يمكن أن تنجح الا بعودة الأخلاق الى كل الاقتصادات والمسؤولين عنها في الدول الغنية قبل الفقيرة.
لا شك أن الكورونا تؤثر على الانسان الفقير والضعيف أكثر بكثير من تأثيرها على القوي والغني. في فرنسا اليوم وعلى سبيل المثال، أي في دولة غنية، هنالك 8 ملايين مواطن يستفيدون من المساعدات الغذائية مقابل 5 ملايين ونصف قبل الكورونا. كما أن ثروات 43 مليارديراً فرنسياً زادت 2% خلال 2020 أي أن الفجوة اتسعت داخل المجتمع الفرنسي الواعي أصلا لهذه المعضلة المزمنة. في الولايات المتحدة، هنالك 40% حالات كورونا أكثر بين السود مقارنة بالبيض. حالة الاستشفاء 3,7 مرات أكثر عند السود مقارنة بالبيض. هنالك 2,8 مرات أكثر حالات وفاة عند السود مقارنة أيضا بالأميركيين البيض. لنفس العمر في أميركا، هنالك 4 مرات أكثر وفيات عند السود. هذه الأرقام حقيقية وغير مفاجئة، لكنها تدعو الى التنبه للطبقات الفقيرة أيا كانت أوضاعها وأوصولها فهي المتضررة الأولى من الكورونا.
بالاضافة الى تصحيح السياسات الصحية وحتمية التعاون عالميا لمواجهة الكورونا، هنالك أمل كبير في وصول اللقاح الى كل الدول. لا شك أن هنالك تمييز بين الدول الغنية والفقيرة، علما أن لا حل نهائي للكورونا الا بتطعيم كل سكان العالم. مشكلة شركات اللقاح أن هنالك العديد من التجارب السيئة معها في التحاليل والأدوية واللقاحات وغيرها، ولا مجال اليوم للتجارب المرة القاتلة. عبر التاريخ، تم تزوير العديد من النتائج بهدف البيع والتسويق وهذا قاتل اليوم اذا تكرر. هنالك ضرورة كبيرة لاشراف المنظمات الصحية على هذه اللقاحات كي تتعزز الثقة بها. لا يمكن أن تعود الثقة الى شركات الأدوية، اذ ما زالت دراسات جدية تصدر وتشكك بفعالية اللقاحات. هنالك دور كبير للشركات نفسها في تطمين الرأي العالم حول فعالية وجودة اللقاحات المتوافرة حتى اليوم. لا يقتصر الدور الحقيقي على شركات الأدوية في التوعية والمهنية، بل يجب أن يكون متوافرا في الجسم الطبي والتمريضي والاستشفائي والجامعي والأكاديمي كما في أجهزة الرقابة الرسمية.
هنالك ضرورة اليوم أكثر من أي وقت مضى في تغليب النزاهة على الفساد. هنالك ضرورة لنشر كل المعلومات وليس اخفاء التجارب السلبية في سبيل التسويق والبيع والربح. الفساد موجود عالميا منذ زمن طويل، لكن تأثيره المضر لم يظهر أكثر من اليوم خاصة في موضوع اللقاحات انتاجا وتوقيتا ونوعية وتوزيعا. موضوع مواجهة الكورونا عبر اللقاحات وغيرها لا يحتمل حصول أخطاء وضحايا، بل يتطلب توافر المهنية الكبيرة الواعية والفاعلة. المجتمع العالمي اليوم هو مجتمع اختبار للقاحات التي تأخذ عادة سنوات كي يتم التأكد من سلامتها. أخذ اللقاحات يبقى أفضل بكثير وأسلم بكثير من عدم أخذه، وبالتالي مواجهة الكورونا من دون سلاح اللقاح المتوافر. بعد الكورونا، هنالك ضرورة لتصحيح وتطوير وتحديث الأنظمة الصحية الوطنية وخلق منظمة صحة فاعلة قوية تحظى بالايرادات المالية الكافية كي تواجه مهمات مستقبلية ربما تكون أخطر مما نعرف اليوم.