صح المثل القائل انّ المصائب تأتي دفعة واحدة. فإضافة الى الواقع الخطير الذي يعيشه لبنان بسبب الانهيار المالي والاقتصادي، جاء زحف فيروس «كورونا» ليضاعف من مصائب اللبنانيين وهو الذي يرهب دول العالم التي تتدافع حكوماتها للابطاء من انتشاره طالما أنّ العلاج ما يزال غير موجود. لكن ربّ ضارة نافعة. ففيما استباح هذا «الفيروس» معظم الرقعة العالمية وبلغ ذروة تفشّيه في ايران وايطاليا بعد الصين، فإنّ ملامح إيجاد دواء له لم تظهر بعد رغم الوعود العديدة والآمال التي تطلقها بعض مراكز الابحاث، ولو انّ اكثرها تفاؤلاً يتحدث عن عدة أشهر لاعتماد الدواء الصحيح.
الواضح أنّ «الفيروس» الذي انطلق منذ حوالى الشهرين من مدينة «ووهان» الصناعية الموجودة وسط الصين، وَجّه ضربة موجعة للاقتصاد العالمي، وقطع أوصال العالم وأنزل خسائر هائلة في بعض الدول وفي طليعتها الاقتصاد الصيني الصاعد عالمياً.
وفي بعض الدول يجري الاستعانة بالحرس الوطني في المدن التي فرض عليها نظام العزل، ذلك انّ أفراد القوى المسلحة تولّت إيصال الطعام الى المنازل التي اقفلت ابوابها، إضافة الى المساعدة في تنظيف الاماكن العامة وتعقيمها لاحتواء انتشار «الفيروس».
الرئيس الاميركي دونالد ترامب كان أحد المتضررين من ظهور «كورونا» في بلاده. والحملة الانتخابية التي سجّلت انتصارات لترامب منذ حوالى ثلاثة اشهر، شهدت أول تراجع في شعبيته بسبب وصول «كورونا» الى الولايات المتحدة الاميركية. فالاقتصاد القوي الذي شكّل ورقة رابحة بيَد ترامب في حملاته الانتخابية تلقّى ضربة لا بأس بها، مع وجود تخوّف لكبار الخبراء الاقتصاديين من أنّ هذا التراجع الاقتصادي سيستمر وسيزداد وصولاً الى الصيف المقبل، أي قبل أشهر قليلة عن موعد فتح الصناديق.
لذلك مثلاً تبحث إدارة ترامب في إمكان إصدار قرار يدعو الى تأجيل الموعد النهائي لتسديد الضرائب، والمحدد في 15 نيسان المقبل، كجزء من السعي للتخفيف من الآثار السلبية لفيروس كورونا على الشركات والاسواق الاميركية. وفي المقابل تلقّت ايران ضربة موجعة بالانتشار السريع للفيروس القاتل، والانعكاسات السلبية له على مستوى علاقات طهران مع العواصم الحليفة مثل العراق وبيروت ودمشق، لا سيما وانه أُدرج في سياق النزاع السياسي الحاصل. لكنّ المشكلة في لبنان انّ إمكانيات الدولة ضعيفة، والحكومة التي تدير البلاد فَتيّة وتعاني جرّاء النزاع السياسي الحاد الحاصل ووسط حال من الانهيار المالي والاقتصادي.
صحيح انّ الوقاية، انطلاقاً من التعويل على وعي الناس، هي السلاح الاساس لمواجهة الوباء، ما دام انّ إمكانات الدولة ضعيفة وغير فعالة، الّا انه لا بد أيضاً من الاشارة الى المخاطر الناجمة عن وجود كثير من تجمّعات النازحين السوريين والمخيمات الفلسطينية، ما يهدّد بانتشار سريع لهذا الوباء بسبب الظروف القاسية والصعبة الموجودة.
لكن لمأساة «كورونا» جوانب ستفيد اقتصاد لبنان.
صحيح انّ لبنان سيعاني كما دول العالم من الانعكاس السلبي على النمو الاقتصادي، الّا انّ لِما يحصل جوانب أخرى ستنعكس ايجاباً على الوضع المالي المتهالك للدولة اللبنانية.
فتراجُع الحركة الى درجات متدنية ستؤدي الى تراجع حركة الاستيراد، ما يعني تراجع مستوى العجز في ميزان المدفوعات، وتالياً على مستوى الموازنة العامة، اضافة الى انّ تراجع سعر برميل النفط عالمياً، والذي زاد في تراجعه «الحرب النفطية» المفتوحة بين روسيا والسعودية، سيؤدي الى تراجع الفاتورة النفطية للبنان والتي تبلغ حداً مرتفعاً. ولا بد انّ تكون الحكومة اللبنانية قد لاحظت هذه الجوانب الايجابية وسط النفق المُظلم الذي تعمل من خلاله. فقريباً سينطلق رئيس الحكومة في جولته الخارجية الاولى، من العواصم العربية، في وقت تستمر اللجان الخمس المشَكّلة في عقد اجتماعاتها المكثفة قبل رفع تقاريرها ليجري وضع الخطة المطلوبة على أساسها.
اللجنة الاولى تبحث في وضع المالية العامة وموضوع الدين العام وميزان المدفوعات، وهي تعمل بالتعاون مع صندوق النقد الدولي.
اللجنة الثانية تبحث في ملف النمو الاقتصادي، وهي تعمل بالتعاون مع البنك الدولي.
اللجنة الثالثة تتولى ملف القطاع المصرفي والمالي النقدي.
اللجنة الرابعة منكبّة على ملف الكهرباء، واللجنة الخامسة تتولى ملف القطاعات الاقتصادية.
ومن المفترض ان تنهي هذه اللجان عملها خلال الاسابيع المقبلة بحيث لا تتعدى مهلة الشهرين. في هذا الوقت سيكون الرئيس دياب قد أنجز جولاته الخارجية وما يمكن ان تحقق من مساعدات مطلوبة. لكنّ اللافت في هذا المجال هو بروز نقطتين أساسيتين:
الاولى، انه وخلافاً للتهويل الذي استبق قرار تأجيل لبنان دفع استحقاق اليوروبوندز، فإنّ الجهات الخارجية المعنية أبدت تفهّمها لقرار لبنان وأبدت استعدادها لإعادة جدولة الديون. وبالتالي، فإنّ التهويل الذي مارَسته جهات مصرفية واعلامية لم يكن صحيحاً، خصوصاً انّ باريس أبلغت بوضوح أنها مستعدة لمساعدة الحكومة اللبنانية في مسارها الصعب، وهي التي تدرك انّ البديل المطروح هو انهيار الدولة اللبنانية في حال سقوط الحكومة.
ولا يتردد المسؤولون الفرنسيون في الاشادة ببعض الوجوه الوزارية وخصوصاً وزير المال غازي وزنة، الذي يعتبرون أنه ملمّ جيداً بحقيقة المشكلة ويعرف كيفية مقاربة ملفه بشكل علمي.
والثانية، الاسلوب الذي يَنتهجه وفد الصندوق الدولي، فهو لم يضع أي شروط، بل اكتفى بطرح الاسئلة التي يمكن التكهّن بخلفياتها.
أمطرَ الوفد المسؤولين اللبنانيين بأسئلة دقيقة، واكتفى بالاستماع الى الاجوبة. سأل مثلاً: ماذا ستفعلون بسعر صرف الليرة اللبنانية؟ ما هي رؤيتكم للخصخصة والحدود المُمكن الذهاب اليها في هذا المجال؟ ما هي الاجراءات والاصلاحات التي تنوون اتخاذها؟!
كيف ستعملون على حصر النفقات؟ وكيف ستؤمّنون التمويل المطلوب الذي قد يبلغ سنوياً حدود الـ7 مليارات دولار؟ اضافة الى اسئلة اخرى لا شك انها ستؤدي لاحقاً الى وضع دفتر شروط صندوق النقد الدولي، ولكن عندما يحين التوقيت السياسي.