يطول الانتظار أمام باب الطوارئ. ساعات تمضي ثقيلةً كمرور دهرٍ. تكثر التمتمات والأحاديث غير المفهومة. أعين تائهة تتأمّل بعضها البعض بحذر، وفي البال سؤال واحد يجول: في أي جسد هو جالس؟ أي حنجرة اخترق؟ أي نهاية ستُكتب اليوم؟ وجومٌ يطغى على كل شيء.
في أحد التحقيقات التي كتبتها في “نداء الوطن” تحدثت عن مساوئ العيش في سكن مشترك. شقة صغيرة بغرف ضيقة ومطبخ وحمام واحد فقط تتقاسمها كلها ثماني فتيات! أذكر أنني عبّرت حينها عن “حسدي” لكل من يملك قدرة على استئجار شقة منفردة أو “استديو” على الأقل. لكن في حينه لم يكن الوضع بهذا السوء. لم يكن هذا الوحش الخفي المتنقل بين أنفاسنا قد ظهر بعد. أعتقد أن منسوب الحسد قد تضاعف الآن، خصوصاً أن النظافة الشخصية لكل فرد أساسية والوقاية من المحيط القريب والبعيد ضرورية، وهما أمران لا يمكن تحقيقهما في سكن مشترك، حيث لا مساحات خاصة آمنة بما يكفي لضمان عدم تنقل ذلك الوحش الخفي بين أغراضنا وأجسادنا.
في بيتنا كورونا
لم ننتظر أنا وصديقاتي في المنزل كثيراً قبل وقوع الفاجعة. استيقظنا ذلك الصباح على صوت سعال متكرر مريب. لم تتجرأ أي واحدةٍ منا على قرع باب الغرفة مصدر الصوت، وهي الملاصقة لغرفتي تماماً. حدّقت بوجهي في المرآة قبالتي وسألت نفسي: “ما بالك؟ هل يُعقل أن يتفشى الخوف بداخلك إلى هذا الحدّ؟ أن يتملّك حواسك ويُعطّل قدرتك على المبادرة ويقتل إنسانيتك؟”. الخوف من الموت هو الموت بذاته. انسليت من الفراش. وقفت على بُعد خطوات من الباب وندهت الفتاة: “ما بك؟”. نظرت إلي، وأردفت: “أعاني سعالاً حاداً منذ يوم أمس، وحرارة جسدي مرتفعة، وآلام الرأس لا تتوقف. هل تكفي هذه العوارض للإجابة على سؤالك؟ أعتقد أنه يجب عليكم جميعاً مغادرة المنزل”. تجمدت أطرافي في هذه اللحظة. شعرت بأنني قريبة من النهاية. أي نهاية؟ لا أدري. إنه جزع يتغلغل بداخلي. مرّت في ذاكرتي وجوه كثيرة أحببتها وأحبها. استوقفني وجه أبي. رجل ستيني من “كبار المدخنين”. هل يُعقل أن أنقل العدوى إليه؟ شعرت بأنني ملوّثة وأن كل شيء من حولي لم يعد في مكانه. وكأن حياتي المضبوطة دائماً على مواعيد ثابتة، والتي كان زملائي يتبادلون النكات حول دقة تنظيمها، قُلبت رأساً على عقب. عدت إلى غرفتي ونظرت إلى المرآة مجدداً. أسئلة كثيرة ازدحمت مرة واحدة في رأسي. سمعت همسات الفتيات الأخريات. حضرن إلى غرفتي وبدأ النقاش يحتدم. أسئلة كثيرة تتكرر وهواجس شتى نطقن بها. وجدتني فجأة أمسك هاتفي بين يدي وأخابر الصليب الأحمر اللبناني.
بعد انتظار، حضر الفريق. طُلب منا الابتعاد قدر الإمكان والإفساح بالمجال أمامهم للعمل بدراية. رفعوا الفتاة برفق. وضعوها على السرير النقال. وصلوا جهازاً تنفسياً بأنفها. طلبوا منها الاسترخاء ومقاومة الخوف. فعلاً الخوف! الشعور الذي قد يُشكّل الضربة القاضية. مقاومته سلاح النجاة. أغمضت عينيها كمن يستسلم لغفوة بعد معركة مرهقة. أما نحن، فقد اصطفينا في الممر عيوننا ذابلة ووجوهنا شاحبة، كطالبات الصف الثانوي أثناء توزيع علاماتهن الفصلية وهن يُدركن أنهن راسبات. وقفنا متراصات وأيدينا مكتّفة وكأننا نودعها. تمتمنا بعبارات التشجيع والدعاء. نريد لها أن تكون بخير لنكون بخير. لا شيء يفضح أنانيتنا المفرطة سوى المرض. وبينما سرحت كل واحدة منا بالتفكير بخطواتها التالية، جاء صوت إحدى الممرضات في الفريق: “إن ثبتت إصابتها بفيروس كورونا فستبقى في المستشفى. عليكن أنتن بإجراء الفحص”.
انتبه خطر كورونا!
ليس أمراً عابراً أن يخضع شخص لفحص طبي وهو يُدرك أن احتمال إصابته بالوباء وارد. لكن لا مفرّ من المواجهة. أذكر أنني في صباح ذلك اليوم كررت سماع أغنيتي المفضلة لعمرو دياب “حبيبي ولا على بالو”. رقصت على أنغامها وأنا أتحضر لزيارة مستشفى رفيق الحريري. خرجت بكامل أناقتي. ارتديت القفّازات الواقية ووضعت قناعاً طبياً (كمّامة) ومضيت أردد “حبيبي ولا على بالو”. لحظة وصولي إلى المستشفى شعرت بقشعريرة تسري في أطرافي. ثم تذكرت كلام شباب الصليب الأحمر أثناء نقلهم صديقتي إلى المستشفى، وهم يحاولون تبديد مخاوفي: “إنه فيروس مثل أي فيروس آخر. ليس خطيراً للدرجة التي يصوّر بها في الإعلام. هناك فيروسات أكثر فتكاً، إلا أنه خبيث فلا تظهر آثاره مباشرةً كما أنه سريع الانتقال من شخص إلى آخر. يقاومه الجسد لذلك ترتفع الحرارة. غالباً يستطيع الشباب في أعماركن التغلب عليه”. رسمت إشارة الصليب على وجهي ومضيت. أمام المدخل الرئيسي شاب يقف مرتدياً كلّ أسلحته: قناعاً طبياً، معطفاً أبيض طويل الأكمام، قفّازين بلون أزرق، ووضع إلى جانبه عبوة مطّهر يستخدمها باستمرار. بعد التحية سألني عن غرضي، وأرشدني إلى المكان المخصص لفحص فيروس كورونا. توجهت إلى آخر الممر ثم انعطفت يميناً بممر طويل أيضاً، ثم لمحت عن بُعد زحمةً وأصواتاً تعلو معترضةً على طول الانتظار. أيقنت أنني وصلت إلى ضالتي. نزلت السلالم فوجدت في استقبالي عبارة: “طوارئ الكورونا”.
نظّموها…
لم أكن أتوقع أن طابور المشكوك باحتمال إصابتهم بالفيروس سيبلغ هذا الحدّ. أما الصدمة الكبرى فكانت باحتشاد هؤلاء في نقطة واحدة، ووقوفهم متلاصقين وكأنهم لا يفقهون شيئاً عن الفيروس والعدوى. استفز المشهد سيدة ثلاثينية جاءت برفقة ولدين، فندهت على الدركي قائلةً: “إطلب منهم أن يبتعدوا قليلاً عن بعضهم البعض. أرجوك إن كان من بينهم من هو غير مصاب ستنتقل إليه العدوى بسهولة”. لكن الدركي ردّ جازماً: “ليس لدي سلطة هنا يا سيدتي. فأنا موجود لإجراء الفحص أيضاً”، مضيفاً: “يمكنك طرق الزجاج هناك. في الداخل عناصر من قوى الأمن الداخلي مولجين التدخل وحماية المكان ومنع الاكتظاظ”. التفتنا جميعاً إلى حيث أشار العسكري الشاب، لنرى غرفة بزجاج داكن بداخلها ثلاثة عسكريين. اقتربت السيدة وطرقت الزجاج، فأومأ لها أحدهم من الداخل طالباً منها التكلم عما تريد. أجابته من خلف الزجاج. فرد بحركة خاطفة من يده بأنه سيفعل ما طلبت. كان المشهد مريباً. خوفاً من العدوى ومن الاختلاط مع الناس يحجر العسكريون أنفسهم داخل صومعتهم، يشربون القهوة ويدخنون تاركين الناس لشأنها!
كل من في المكان متسلّح بقفّازات وكمّامات، لكن بعضها كان من دون جدوى. فعلى اليمين وقف شابان، يبدو أنهما صديقان، رفع أحدهما الكمّامة عن وجهه ووضع سيجارة بين شفتيه، أشعلها ثم مرّرها لرفيقه وأشعل أخرى. بينما رفع صديقه كمّامته عن وجهه أيضاً ونفث دخان السيجارة. بعد انتهائهما من تدخين سيجارتيهما أعادا وضع الكمّامتين. وبينما سرحت مذهولة من المشهد ناداني أحد الشبان: “هل سجّلت اسمك هناك؟”. أجبت: “كلا. هل علي ذلك؟”. ليرد: “طبعاً! أو ستنتظرين هنا طيلة حياتك!”. كان قد مرّ على وجودي في المكان ساعة ونصف، لكن أحداً لم يُبلغني أن علي فعل ذلك. الفوضى هنا سيّدة الموقف في غياب كلّ أشكال التنظيم.
طاقم المستشفى يواجه وحيداً
في طوارئ الكورونا في مستشفى رفيق الحريري ممرضان فقط. الأول يُسجل أسماء القادمين ويحضّر ملفاتهم عبر حصوله على معلومات منهم عن وضعهم الصحي، أما الثاني فيُعقم الغرفة باستمرار ويُعاون الطبيبة المولجة إجراء الفحوصات. يبدو الممرضان كشجرتين مثمرتين في حقل يابس. وحدهما عليهما إتمام واجب هائل بهذا الحجم. وحدهما عليهما ضبط هلع الناس وتنظيم وجودهم في الخارج ومنع دخولهم من دون إذن أو من دون تلاوة أسمائهم، وتعقيم المكان والتنسيق مع الأطباء والصليب الأحمر اللبناني الذي ما انفك ينقل حالات ومصابين إلى المكان. يُضاف إلى ذلك، محاولة التفرقة بين المنتظرين خارجاً عقب الإشكالات المتكررة بينهم. إذ شبّ خلاف بين فتاة اعترضت على قيام أحد الشبان الموجودين بتصويرها، وخلاف ثان بين رجل مسنّ وآخر على خلفية أحقية الدخول أولاً! فقد كان لافتاً للعيان بقاء العديد من المسنين خارجاً لوقت طويل بانتظار النداء عليهم بأسمائهم. ووسط هذا الجوّ المشحون، يلج سريعاً إلى الداخل رجلان يدعيان أنهما طبيبان. يصطدمان مع الممرض الذي يعترض على مرورهما بهذه الطريقة وهما لا يرتديان الكمّامات ولا يضعان قفّازات. علت الأصوات في الداخل، كرّر الرجلان أنهما طبيبان وسألا الممرض: “ألم يُكلمك الدكتور حسون لكي تُدخلنا مباشرةً لإجراء الفحص؟”. فأجاب الأخير: “لم يُكلمني أحد وإن كنتما طبيبان ومن غير المقبول هذا التصرف. انتظرا خارجاً ريثما نتأكد من هذا”. ساد الهرج والمرج مجدداً وسط إصرار الرجلين على الدخول. أما في الخارج فازداد تململ الحاضرين. هناك من ينتظر منذ أكثر من 6 ساعات ولم يأتِ دوره بعد. يمرّ الوقت ثقيلاً. الكلّ موبوء حتى يثبت العكس. العلاقات الإنسانية بين الناس المنتظرة شبه معدومة. لا أحد يُكلّم الآخر. نظرات تملؤها الحيرة والقلق. الخوف وحده يفرض سيطرةً وسلطةً. الخوف من الآخر، من المحيط، من كل شيء يتجلى في أبهى صوره.
من يُنادي عليه الممرض يدخل مباشرة إلى جلسة الاستجواب حيث يُسأل عن العوارض التي يشعر بها، والناس الذين اختلط بهم، ومن أين يظن أنه قد التقط الفيروس. بعدها يطلب منه الانتقال إلى الباب الثاني والانتظار هناك. بعد وقت يخرج مساعد الطبيبة ليطلب منه الدخول. فور دخوله يجري تعقيم يديه ويمنع من لمس أي شيء. تسأله الطبيبة عن العوارض التي يشعر بها وعلى ضوئه تُقرر إجراء الفحص له أو لا.
تصدر نتيجة الفحص بعد 48 ساعة. من يتم الاتصال بهم من قبل وزارة الصحة ويطلب منهم الحضور إلى المستشفى فهم مصابون بالفيروس، أما من لا يتصل به أحد بعد انقضاء المدة فهو غير مصاب. أما من لا توافق الطبيبة على إجراء الفحص له، وذلك استناداً إلى قرار وزارة الصحة بعدم إجراء الفحوصات إلا على الأشخاص الذين يعانون من عوارض المرض، فيُطلب منه حجر نفسه في المنزل لمدة 14 يوماً، والعودة إلى المستشفى فور شعوره بأي عارض.
باتت حياتنا رهن المُهل والزمن. 48 ساعة أو 14 يوماً، في المستشفى أو خارجه، ليس مهماً. ربما علينا الكف عن التعداد والاستفادة من فرصة تُعطى لنا لأخذ قسط راحة من زحمة يومياتنا المعتادة. أكتب هذا النص من عزلتي، مثلكم تماماً. لكنني على يقين أن حكمةً ما تكمن في ما يحدث. سيزول وينقضي هذا الوهم كما انقضى سواه، وسنعيش ليوم نتذكر فيه حجرنا الإلزامي، ونتبادل الأسرار والكوابيس، ونضحك على خيبات كثيرة.