IMLebanon

عن وباءٍ اسمه «كورونا سياسية»

 

في زمن اللاثقة: بلدٌ مفلس ومعزول وجائع.. لكن لا داعي للهلع!

 

 

على الطريقة اللبنانية العريقة في سورياليتها، يحلو للطبقة السياسية الحاكمة، ولعدد كبير جداً من تابعيهم، تقزيم القضايا الكبرى، وتصغير الأمور الكبيرة. تحويل كل شيء إلى مصاف التسخيف والهزل؛ فكما تحوّل الآلاف – فجأة – على هامش المآسي الحاصلة، إلى خبراء اقتصاد ومال وسياسات استراتيجية وأوبئة جرثومية، وإلى محققين وقضاة وجلادين.. تماماً، باتت، مع هؤلاء، كل مشاكل لبنان وتحدياته محصورة بسؤال وحيد أوحد، هل سيسدد لبنان سندات «الأوروبوند» في استحقاق 9 آذار المقبل أو يؤجلها؟

 

كيف نشأت هذه الأزمة، وماذا حصل على هامشها، وتحت ظلالها وباسمها؟ أين الخطة الإصلاحية والمالية المتكاملة، ماذا عن الخيارات الأخرى غير ثنائية الدفع – التخلف عن السداد؟ ثم قبل كل ذلك، لماذا لا يجري فتح الحديث عن ثقب الكهرباء الأسود ومغارته القذرة؟ هل ثمة من ينتبه للحظة أن مئات آلاف المودعين يتمّ إذلالهم بشكل يومي وأسبوعي أمام أبواب المصارف للحصول على فتات تافهة من «أموالهم»؟ أين ودائع المودعين، وفي خضم الحديث عن تهريب الأموال، هل من يذكّر بالأموال المنهوبة بانتظام؟ ثم ما هذه المعضلة الغامضة في ملف تهريب الأموال، أأرقامٌ وأسماءٌ هيَ أم طلاسم، ما هذا الارباك والتغابي واستهبال الناس والاستماتة في التغطية على المتورطين؟ لماذا خرج الناس إلى الشوارع والساحات أصلاً؟ أسئلة وهواجس لها ما يبررها، وما كان ينقصها سوى كلام الرئيس ميشال عون خلال جلسة مجلس الوزراء الأخيرة عن أن «مجموع المبالغ المهدورة التي لا أدلة ثبوتية عليها بلغ مبلغا كبيرا، منها سلفات خزينة من غير المعروف كيف صرفت ومبالغ أخرى وردت كهبات للهيئة العليا للاغاثة» ليزيد الأمور غموضاً وريبة وشكوك!

 

ثم جاء «كورونا»!

 

المشهد في لبنان، والحال هذه، بات أشبه بمسرح تراجيدي كبير، يعتليه من يشاء، لتمثيل ما يحلو له.. من يُصدق مثلاً أن أنصار «التيار الوطني الحر» يتظاهرون أمام مصرف لبنان ضد السياسات المالية؟ ومن يصدق أن مسؤولي مصارف تحومُ حولهم شبهات بالتورط في بيع سندات «يوروبوند» إلى مستثمرين أجانب يشاركون في ما يسمى اجتماعات بعبدا المالية ذات البيانات الرنانة، في تجاوز، إن صحّ، يُشكلُ جريمةً مكتملة العناصر لناحية حصول هؤلاء على معلومات بأساليب تخالف قوانين التداول في السوق، ووصولهم إلى بيانات أو معلومات «غير عامة» تخلّ بمبدأ المساواة بين المستثمرين، هذا بالحدّ الأدنى إن لم يكن أكثر.

 

أكثر وأكثر… هل نبكي أم نضحك على تصريح وزير الصحة، تعليقاً على اكتشاف حالات مؤكدة للإصابة بفيروس كورونا»، بأن «حال الهلع غير ضرورية»، شارحاً آداب ولياقات السعال والعطاس والاحتكاك..!! وهو وإن أخطأ في جزء من كلامه، لكنه محق لناحية أن سياسات الحكم في لبنان تُبنى دائماً على معادلة ذهبية مفادها «لا داعي» للهلع والقلق والخوف (على وزن الليرة بخير)، في القضايا النقدية والمالية، وفي القضايا الصحية والحياتية، وفي القضايا الهامشية والمصيرية، لكن المؤكد ايضاً أن هذه السياسات أوصلت دائماً إلى الهاوية.

 

التجويع المقصود

 

لم يشهد لبنان في تاريخه المعاصر توحّشاً سياسياً وطائفياً ومافيوياً وسلطوياً، وتعبئة عنصرية، ومحاصصة وتمييزاً وفساداً، كما شهد عهد التسوية البغيضة التي أفرزت أزمة مستفحلة تكاد تتسبب بحرب أهلية، وانهياراً للدولة؛ بتنا بلداً معزولاً ومفلساً وجائعاً.. وموبوءاً!! من دون أن ينجح بحل أزمة واحدة فقط. شعبوياتٌ فارغة، وتهميش للدستور، وخنق للحريات، وفساد ومحاصصة، وجوعٌ عتيق للمكاسب والانتهاب.

 

في آخر الإحصاءات المرعبة التي تعكس الوضع المأساوي الذي وصلنا، بلغَ عدد العاطلين عن العمل 160 ألف شخص، والرقم مرشح ليصير 300 ألف قريباً جداً، أما نسبة البطالة فبلغت 40 بالمائة وقد تصل الى خمسين، بموازاة 785 مطعماً ومقهى أقفلت ما بين أيلول 2019 وشباط 2020، و25 ألف موظف صرفوا من هذه المؤسسات، ما يعني بالمباشر مليون إلى مليوني لبناني سيعيشون تحت خط الفقر… وكل ذلك برعاية «العهد القوي»!

 

ابحثوا عن الثقة

 

قبل أيام، وخلال جلسة التصويت على الثقة بالحكومة، أتحف رئيس الحكومة اللبنانيين ببيان وزاري مطوّل، وردي، محشو بالوعود، وتكرار المكرر، يفيض بالإنشائيات من دون تقديم أي خطط، فيما كان يمكن، وحال البلد قد وصلت إلى قعرِ القعر، حصر هذا البيان بأولويتين اثنتين عاجلتين وضروريتين: كيفية معالجة الوضع المالي المنهار (بما يقتضيه من إجراءات مالية وإصلاحية وقضائية وإدارية)، وسدّ فجوة الكهرباء التي تنهب لوحدها نحو ملياري دولار سنوياً من المال العام (من دون تأمين التيار الكهربائي طبعاً)، وذلك كفيل باستمالة جهات عربية ودولية مانحة للوقوف إلى جانب لبنان لوقف الانزلاق نحو المجهول.

 

نالت الحكومة الثقة، في الخلاصة، وسط احتجاجات وغضب ونقمة شعبية، ووسط شكوك داخلية وخارجية كبيرة في قدرتها على مواجهة التحديات المصيرية التي تتحكم بلبنان، لأنها ببساطة حكومة النصاب المنقوص، والشرعية العرجاء، والثقة المهزوزة. حكومة البواخر والعزلة والإشراف على الإفلاس.

 

والثقة، للتذكير، ليست أرقاماً بل ابتكار للحلول، وطمأنة للخائفين، هي شيء يمنحه الشعب قبل أن تبصم به قلّة وصلت للبرلمان بقانون انتخاب ممسوخ. الثقة، بحسب الكبير سمير عطا الله، «ثقة. الناسُ في الشوارع، والأرضُ في المقالع، والدولةُ مرابع مرابع.. ونحن نبحث عن شيء يدعى (بكل جرأة) الثقة»!.

 

قبل ذلك، سجل تاريخنا الوطني صرخة للمطران بولس عبد الساتر في عظة قداس عيد مار مارون بوجه كبار المسؤولين «ألا يستحق اللبنانيون الذين وثِقوا بكم وانتخبوكم في 2018 ان تُصلحوا الخلل بالأداء السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي وان تعملوا ليل نهار، مع الثوار الحقيقيين، على إيجاد ما يؤمِّن لكلِّ مواطنٍ عيشةً كريمةً؟ وإلا فالاستقالةُ أشرَفُ».. لكن المفاجأة أن الحاضرين من المعنيين بالكلام صفقوا!! بل، أكثر من ذلك ولتكتمل الكوميديا السوداء، خرج من يقول إن كلام المطران خرج من روح خطاب القسم!!

 

والثقة، أيضاً وأيضاً، لا تنال خلف جدران العزل، وبحماية الجيوش ومكافحة الشغب، يروي المخضرم عبد الحميد الأحدب أنه في سنة 1952 طلب الرئيس بشارة الخوري من قائد الجيش (آنذاك) فؤاد شهاب أن ينزل الجيش لقمع المتظاهرين، فأجابه شهاب بأن الجيش للحدود وليس للداخل. فقدّم بشارة الخوري استقالته.

 

سقى الله أزمنة كانت الدولة تدار بحكمة وتعالٍ وشفافية وكبرياء، قبل أن تتفشى «كورونا سياسية» جعلت من العمل السياسي وباء مستعصي الشفاء.

 

الحكومة – يا دولة الرئيس – بانجازاتها المتحققة، وليس بصف الكلام والإنشا