يتحدث المحلل النفسي الفذّ بوريس سيرولنيك عن عمق التصدعات التي ستتركها جائحة «كورونا» على النفس البشرية. عن أناس بالآلاف لا يمكنهم وداع أحبائهم، حتى تشييعهم كما يليق إلى مثواهم الأخير، أو تقبّل التعازي، وإقامة الطقوس التي تواسي. تأتينا الأخبار عن حرمان أهالي الضحايا من طبع قبلة الوداع على جبين أحبتهم، أو لمس يدهم، حتى مرافقتهم إلى القبر.
عن أمهات يقبعن في جحور، بينهن العاجزة التي لا تجد من يبادلها كلمة، أو المريضة التي لا يتمكن أولادها من تزويدها بالدواء، وتلك التي لا تجيد استخدام الجوال أو المُقعدة التي لا تصل إلى الهاتف الأرضي لتتواصل مع العالم. يوصي سيرولنيك في هذه الحالة، بالعودة إلى البريد التقليدي، لعل صوت الأبناء يصل إلى الكبار الذين انتهت بهم الدنيا إلى تركهم – وإن استبد بهم الوباء – يموتون كمداً، أو اختناقاً، لأن ثمة من هم أصغر سناً أولى منهم بالحياة!
كيف صار مَنْ هم فوق الأربعين والخمسين من كبار السن، وقد كانت المفاخرة أن الشباب بفضل إكسير الحداثة، ومعجزات الطب، ونوادي الرياضة، يدوم حتى الثمانين وما يزيد؟! مَنْ أفتى فجأة أن الفيروس الجديد ليس خطراً، لأنه لا يقتل الأطفال ومن هم في عشريناتهم، إلا قليلاً؟ وكانت حياة أي فرد، قيمة لا تضاهي قيمة! كل هذا الخراب سينتهي إلى محاسبة قاسية.
وسيُسائل الضحايا جلاديهم بعنف عمّا فعلوه بهم، وعن كذبة طالت لأكثر من قرن، انتهت إلى كابوس.
العالم تغير كثيراً، وبأسرع مما يحتمله العقل. نحاول أن نفهم أي انقلابات نحيا، فلا ندرك شيئاً، ونبقى على ظمئنا. في الغرب، وفي فرنسا بشكل خاص، ثمة التجاء إلى الكتّاب والفلاسفة من جديد. محاولة لاستعادة ملامح «عصر الأنوار» وقادته المفكرين، للخروج من الظلام. لعل هؤلاء يجيبون عما عجز عنه الآخرون. لم يعد من ملاذ غير أهل الحكمة والعقل، ممن بقوا خارج دائرة التلوث الآيديولوجي الفتّاك، لعلهم يفسرون أعراض هذا «الأبوكاليبس» الذي لا تبدو له من نهاية أو باب فرج. لم يعد من طعم للأفلام الهوليوودية التي تأخذنا في تسفار إلى سيناريوهات الدمار الأخير، فالواقع أكثر مرارة من كل ما تخيله مخرجو العصر ومبدعوه!
لا يختلف المفكرون الذين يدلون بدلوهم على أن التغيير حتمي، لكنهم يختلفون على شكل ما سيأتي. العودة إلى الوطن الصغير باتت واضحة، ولم يكن «بريكست» سوى المقدمة الوردية لإعادة تشكيل القارة العجوز. ينعى عالِم الاجتماع جاك أتالي عولمة عرفت تقنيات التواصل الاقتصادي والمالي، وفشلت في التضامن والتكافل. تنقص هذه العولمة الروبوتية القاسية مسحتها الإنسانية. فمنذ صارت العولمة وصفة، والحروب تنهش الأرض، والفقر يتصاعد، والبيئة تدمر، والجشع على الاستهلاك وحشياً. يتفاءل كثيرون أن ما يحدث سيكون درساً، لكن «الثمن سيكون باهظاً». وكلما طالت المحنة، كانت الانقلابات أكبر، والكسر في الروح عصياً على الالتئام.
السيناريوهات مفتوحة بعد «الطوفان»، من تفتت الاتحادات، إلى انكماش الديمقراطيات، وباتت أصلاً مراقبة الناس عبر التليفونات لرصد تحركاتهم، في سبيل اتخاذ الإجراءات الصحية، مما يمارس في كثير من الدول، من دون اعتراض من أحد. ولمن لم يلحظ، فإن حركات اليمين المتطرف في كل مكان تعلي الصوت، وتؤنب وتوبخ، وتبدو كأنها تكسب مساحات جديدة. العنصرية جزء من المعركة السياسية للفيروس. وهو نزال لا يزال في بداياته. فبعد الأوبئة، يأتي تاريخياً تبادل الاتهامات، وتوزيع المسؤوليات، وخلافات حول من تسبب في الدمار. وبما أن الفقر سيزداد، والاقتصاد إلى ركود، فالتوقعات باضطرابات أهلية هي من ضمن المنتظر في دول كثيرة. ولا تغشنّك الأموال المرصودة بمئات المليارات. فهذه لن تكون تكفيراً كافياً عن تقصير يفني عشرات آلاف الأرواح، إن لم يكن أكثر. هي أموال ستسد رمقاً، لكنها من الصعب أن تعيد تشغيل نموذج اقتصادي، يعتبره الناس سبباً في إعدامهم.
الكتّاب الفرنسيون الذين نبّهوا أصلاً من سوء المآل، كميشال أونفري يجد اليوم من يسمعه، وكان حين يتكلم نجده متطرفاً، مغرقاً في انحيازه لروحانية الحضارات الشرقية على حساب الترف والرفاه. كان الرجل يسأل مواطنيه؛ ما الذي ننتجه اليوم «لوحات بلا موضوع، شعر بلا معانٍ، وسينما بلا مضمون. حضارتنا تنهار».
وآخر مثل إيمانويل تود، نعى قبل «كورونا» نظاماً فرنسياً طبقياً مهترئاً، عدد من يستحوذون فيه على ثروات البلاد لا يتعدى الواحد في المائة. وبشّر تود العام الماضي، بثورة لا تضم أصحاب السترات الصفراء فقط، بل ينضم إليهم أكاديميون وباحثون وأساتذة جامعات، ممن ظنوا أنفسهم طويلاً بمنأى عن الكارثة. ليست مصادفة أن تود تحولت كتبه إلى «بست سيلر» بينما كان حينها بالنسبة لقارئ عربي، يبالغ في الشكوى. من كانوا يظهرون على الشاشات كأنهم يغردون وحدهم، أو يتحدثون عن أمر سيحدث في مستقبل متوسط، لا بد استغربوا سرعة تحقق توقعاتهم.
بعض المفكرين يرون فيما يحدث خيراً كثيراً، وأن كل هذا الجنون المادي المتمادي، كان لا بد أن يتوقف. وآخرون يتوقعون بعد الوباء شراً مستطيراً. وفي كل الحالات، لا تزال البشرية في البرزخ، وفي ذهول. الرؤية غائمة، الضباب كثيف، وحين تكون عالقاً في نفق لا تملك لنفسك سوى الانتظار. فيا لهول هذا الذي نعيش!!