Site icon IMLebanon

سفينة نوح وطوفان كورونا

 

أحدث وباء كورونا صدمة لدى المفكرين والعلماء الذين اغفلوا اهمية الرأسمال الإنساني وخصائصه وضروراته وانشغلوا بتطورات الثورات الصناعية والاسواق المالية والاقتصادية، ومع طوفان كورونا عاد العقلاء منهم الى البحث عن سفينة نوح جديدة من اجل خلاص البشرية من التفكك الإنساني والانعزال الاجتماعي الوبائي، وذهبت أبحاثهم في عدة اتجاهات من التعمّق بالظواهر التاريخية المشابهة منذ آدم وحواء وتحدياتهم الوجودية البديهية كالعري والغذاء والملاذ الى ثبات الحاجات البشرية وتطور أدوات تحققها عبر العصور والحضارات، وهناك من انصرف لمتابعة تداعيات الوباء والهواجس الكونية الصحية والاجتماعية، وآخرون ذهبوا في بحثهم وتأملهم نحو اليوم التالي ما بعد الوباء وتحديات تشكل بشرية جديدة.

 

أعادنا وباء كورونا الى تعريف السلوكيات البشرية الفردية والجماعية بما هي قواعد اجتماعية والتي قد لا تتوافق مع النزعات الفردية الرافضة لعملية التكيف الجماعي نتيجة الضرورات، والتي تتنافى مع رغبات التفرد والتمايز وتأثيرها على أنماط العلاقات البشرية ومراحل تكونها البديهية البدائية الفوق معرفية للانسيابية الإنسانية الفردية والجماعية، وكيفية تحويل بديهيات الضرورات البشرية الى نظم وقواعد وتقنيات ظرفية غير نهائية رغم الجهود المعرفية النظرية والتطبيقية عبر الأزمنة من اجل تعريف وتحديد السلوكيات البشرية بين حقبة وأخرى أو مدرسة وأخرى والتي تضع الوجود الإنساني والضرورات الفردية والجماعية البديهية مرة اخرى في دائرة الغيبية المعرفية كالسؤال كيف ادرك الإنسان الأول ضرورة الماء والهواء؟

 

التباعد الاجتماعي الوبائي هو عملية تكيّف مجتمعي ابتكرتها البشرية مع أنماط وأدوات وآليات تحقق للأفراد والجماعات الحاجات البديهية رغم التناقض الدائم بين ضرورات تطور الكينونة المجتمعية والأنانية الفردية الانعزالية وأدواتها وتوهم تحقق الاندماج والانعزال في آن، والتي تجعل من التفرد غير الممكن بالواقع ممكناً بالتوهم أو بالافتراض، باستثناء الحالات الضرورية الحقيقية وغير الافتراضية خلال عملية الموت الجزئي المتمثل بالنوم اليومي المؤقت والموت الكلي الدائم، وتلك الضرورات البديهية تجعل من الفرد الإنسان كائناً اجتماعياً، وتجعل من الآخر البشري ضرورة مطلقة أمام الحاجة الى النوم، والتي تجعل من اليوم الواحد اكبر وحدة زمنية على الإطلاق، وذلك لعدم قدرة الإنسان على تجاوزها بمعزل عن فعل النوم أو الموت الجزئي الفوق إرادي والفوق إدراكي بما هو حاجة وجودية بدائية وبديهية تجعل من الوجود البشري الآمن غاية مطلقة للفرد الإنسان ولا تتحقق إلا بالتكيف مع ضرورة الإنسان الآخر على قواعد الانتظام الاجتماعي.

 

يأتي عجز الإنسان أمام ضرورات الموت الكلي للفرد والجماعة على حد سواء مع تنوع وتعدد الإجابات على السؤال الوجودي الأول (من أين أتينا والى أين نحن ذاهبون؟)، والإجابة على هذا السؤال تتجاوز ضرورات الأمان إلى فعل الإيمان الفردي والجماعي وترسيخ القيم الرادعة والجامعة والضامنة على أساس عجز الإنسان وفرادته وأهوائه امام رغباته في بلوغ أمان النوم الجزئي أو إيمان الموت الكلي، وأمام هذا العجز شرعت البشرية بتكوين المجتمعات على أساس ضرورتها المطلقة من اجل سلامة الانسياب البشري المثقل بالخصوصيات الفردية والجماعية الأخلاقية والوجدانية.

 

استطاع طوفان كورونا أن يضع البشرية في مواجهة ضعفها وادعائها وفشلها المعرفي والاجتماعي، وغمر الطوفان المعايير التفاضلية الوهمية بين الأقوياء والضعفاء والتقدم والتخلف، مما ادى الى تلاشي الواقع الفعلي وتعاظم الواقع الافتراضي بعد التقوقع والانكفاء وأغرق كل قواعد التنافسية والسيطرة والثراء، وأصبحت البشرية في حالة انتظار سفينة نوح جديدة تحمل لقاح الخلاص من طوفان كورونا وولادة بشرية جديدة.