لنبدأ التشخيص. فيروس «كورونا» الجديد هو مشكلة معولمة وليس مشكلة العولمة. انتقاله من ووهان الصينية إلى بقية العالم، هو وليد عوامل كثيرة، أبرزها اثنان.
1- إخفاء المعلومات عن الفيروس وطبيعة ووهان كعقدة مواصلات داخل الصين، وبينها وبين العالم. مشكلة إدارة وأخلاق وطبيعة نظام قبل أي شيء آخر، ومشكلة انعدام المحاسبة في نظام شمولي.
بحسب «نيويورك تايمز» مر عبر مدينة ووهان نحو 7 ملايين إنسان في الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يناير (كانون الثاني)، قبل قرار وقف الرحلات وتجميد حركة الطيران.
2- اتصال ووهان بمدن مركزية ستصبح لاحقاً حواضن رئيسية للفيروس، مثل نيويورك التي تستقبل نحو 900 وافد شهرياً من ووهان وحدها، وتعد هي بذاتها عقدة الاتصال الأهم لعموم أميركا الشمالية، أو مقاطعة لومباردي المنكوبة شمال إيطاليا، التي باتت جزءاً حيوياً من قطاع صناعة الأقمشة الصيني.
زائر شمال إيطاليا في السنوات القليلة الماضية، من ميلانو صعوداً نحو البلدات على هضاب توسكانا، سيُفاجأ بعدد الصينيين المقيمين، وبمحلات البقالة الصينية المنتشرة لخدمة الجالية الصينية التي استحوذت على جزء كبير من معامل النسيج، ودباغات الجلود التاريخية، في الشمال الإيطالي.
وفق المنطق العولمي نفسه، مقروناً بقلة كفاءة الإدارة، وتخلف الإجراءات الاحترازية، وفد الفيروس إلى إيران التي تعد الصين شريكها التجاري الأكبر، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، محملاً استمرار طهران في استقبال أكثر من 55 رحلة جوية من الصين خلال شهر فبراير (شباط) مسؤولية انتشار الفيروس في إيران وتصديره خارجها، في رده على خرافات الملالي أن الفيروس جزء من حرب بيولوجية أميركية.
هذه الملاحظات ليست اختراعاً للبارود. قبل أكثر من سبعة قرون سار الطاعون على طريق الحرير نفسها التي صنعت عولمة ذلك الزمن، بين الصين المغولية التي بناها أحفاد جنكيزخان ومدينة البندقية الإيطالية، مروراً ببلاد فارس!
من الأعراض الجانبية للعولمة فائض الاتصال والتواصل الذي أتاحته العولمة، وما ينطوي عليه من تسريع استثنائي لانتقال الجراثيم والأمراض، كما هو حاصل الآن مع «كورونا» الجديد، أو الجلطات المالية كما حصل عام 2008.
لكن من حسناتها أنها اليوم، بما تتيحه من تعاون معلوماتي عابر للقارات والحدود التي أقفلها «كورونا»، ستأتي بالعلاج. الآن تتعاون شركات تتوزع في كل أصقاع الأرض ومن كل القياسات لإنتاج تقنيات فحص وعلاج ولقاح مضاد لـ«كورونا».
كما أنَّ سيل المعلومات المعلوم من أفضل سبل الوقاية من الفيروس، إلى تقنيات الدعم المعنوي ومكافحة التداعيات النفسية للحجر، مروراً بالنكات المتعلقة بالمرض، لا يقيم وزناً للحدود التي أقفلتها الحكومات.
من إيطاليا خرجت حفلات الشرفات الموسيقية، ومنها تعلم العالم التصفيق داخل المنازل للطواقم الطبية. مئات الملايين حول العالم تابعوا مقابلة تريفور نوح مع أنتوني فاوتشي، مدير المؤسسة الوطنية للحساسية والأمراض المعدية، في أميركا، والبطل القومي من حقبة مكافحة الإيدز، وأسلوبه السهل والمطمئن أمام كارثة «كورونا».
العولمة بخير، وإن كانت الرأسمالية ليست كذلك. الأخيرة لم تُشفَ مما أصابها بعد الانهيار المالي الكبير عام 2008. من يومها لم يتعافَ كل النسق الليبرالي الذي تستغل الصين محنته الجديدة اليوم عبر جائحة «كورونا»، لتدق مسماراً إضافياً في نعش الديمقراطية كعنوان لنهاية التاريخ.
في ظلال الجائحة، يجتهد النظام الصيني لممارسة أعتى أنواع القمع للأصوات المعارضة. قبل أيام اختفت آي فين، رئيسة قسم الطوارئ في مستشفى ووهان المركزي، بعد أن كشفت للإعلام تعرضها لضغوطات لعدم الإفصاح عما كان بحوزتها باكراً من معلومات حول فيروس يشبه فيروس سارس! قبلها اختفى رجل الأعمال رين زيكيانغ بعد انتقادات وجهها للرئيس الصيني عبر حسابات يتابعه فيها نحو 40 مليون شخص. وتوفي الطبيب الصيني لي وينليانغ الذي حذر العالم من خطر «كورونا» في ظروف ملتبسة.
الأزمة المالية عام 2008 كشفت الخراب الذي أصاب مدماكي النظام الليبرالي، لا سيما في أميركا: أولاً القبول الضمني بعدم المساواة المادية بين الأفراد في مقابل التساوي في الفرص، وثانياً المحاسبة. تبين أن الفرص غير متساوية، وأن وحوش «اللوبيينغ» وتداخل السياسة والاقتصاد واتساع رقعة الزبائنية والاحتكارات، قد فتح باب الفرص أمام القلة وأقفلها أمام عموم الأميركيين. أما المحاسبة فجرت على صغار الكسبة ممن أفلستهم الأزمة. فصودرت بيوتهم، وتركوا في عراء البطالة بلا تعويضات تذكر، في حين حظي كبار المسؤولين عن الكارثة – لا سيما المصارف – على حزم تحفيز وبرامج إنقاذ بأرقام فلكية. من هذا الرحم ولد اليمين الشعبوي في أميركا وأوروبا، الذي يجد اليوم فرصة ثانية في أزمة «كورونا».
بيد أن هذا ليس قدراً محتوماً. فالجلطات مصاحبة لنمو العولمة والرأسمالية عبر القرون. جلطة الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي فتحت الباب مع الرئيس الأميركي التاريخي فرانكلين روزفلت، لولادة «العقد الجديد» الذي منح الكوكب أفضل فترة ازدهار ونمو مستدام، في تاريخ البشرية الموثق.
الأزمة التي جاء «كورونا» لمفاقمتها هي أزمة أخلاقية قبل أن تكون تقنية. في الصين كما في أميركا.
عنوان الكتاب الأحدث للاقتصادي الحائز «جائزة نوبل» جوزيف ستيغلتز، «الناس والسلطة والسياسة»، يحمل جواباً في عنوانه الفرعي، «نحو رأسمالية تقدمية»، تعيد الاعتبار للعلم والخبرة والمؤسسات وآليات التثبت من الحقائق، والأهم التخفف من الإيمان شبه الغيبي بقدرة الأسواق بنفسها على تصحيح إشكالية العدالة الاجتماعية، وتوزيع الدخل، وتعزيز ضوابط الحماية الاجتماعية، وإعادة إحياء حد صحي من الضوابط على الأسواق المالية، تعالج جنوحها في السنوات الأخيرة لفوائض المخاطرة واستغلال مداخيل الأفراد!
السؤال المطروح على العولمة والرأسمالية في ضوء جائحة «كورونا» أخلاقي أولاً، تتفرع عنه سياسات وقوانين وتنظيمات. الجواب ليس في اللامسؤولية الصينية في ظل نظام رأسمالي قمعي تقوده الدولة المركزية، ولا الجواب عند اليمين النيوليبرالي الذي يتهيأ الآن كما عقب 2008 لحماية الكبار ومعاقبة صغار الكسبة!