IMLebanon

كورونا ونظرية الداروينية الاجتماعية

 

 

«غَد بظَهر الغيب واليوم لي        وكم يَخيب الظنّ بالمُقبلِ»

«إنْ تفصل القطرة مِن بَحرها      ففي مَداهُ منتهى أمرِها»

«يا عالمَ الأسرار عِلم اليَقين        يا كاشِف الضرِّ عن البائسين»          رباعيات الخيام لأحمد رامي

بغضّ النظر عن الرفض الآلي لنظرياته من قبل من يدّعون المعرفة بها، فقد قدّم شارلز داروين نظرية شديدة النباهة وسابقة لعصرها في مسألة تطور الأنواع. ما يركّز عليه العامة هو أنّ أصل الإنسان هو قرد، وما قاله داروين في الواقع هو أنّ كل الكيانات الحَية أتت من أصل واحد. لكنّ النظرية الأكثر أهمية هي مبدأ البقاء للأصلح.

 

وفي هذا المجال، فإنّ الأصلح لا يعني لا الأقوى جسديّاً، ولا الأكثر فطنة وتعقيداً في بنيته. فلو كان الأقوى بنية جسدية لكانت الديناصورات المفترسة تحكم العالم حتى اليوم، وكل الدراسات أكدت حتى الآن أنّ سبب فنائها منذ 70 مليون سنة هو بنيتها المتفوقة. ومسألة التعقيد والفطنة، فيبدو اليوم أنّ أكثر الكائنات الحية فطنة وتعقيداً بنيوياً، يقف رافعاً يديه مُستسلماً أمام أدنى نوع من الكائنات البدائية! فالفيروسات لا فكر ولا فطنة عندها، وبالتأكيد فإنها على أدنى سلّم الكائنات من حيث التعقيد البيولوجي. رغم ذلك فقد تكون الأكثر قدرة على البقاء، وستبقى على الأرجح بعد زوالنا نحن في يوم ما!

 

ما لنا ولكل ذلك الآن، فالحديث هو عن الداروينية الاجتماعية، وهو موضوع خطرَ على بالي عندما كنت طالباً في الجامعة أدرس نظرية داروين، وكنت أنا المولَع بالسياسة، أضع نظريتي بأنّ المجتمعات أصبحت هي الوحدة المعنية بتطور الأنواع وبقائها بدل الأفراد والأجناس. وكان ذلك قبل أن أدرك أنّ الموضوع كان قد طرح في القرن التاسع عشر، من خلال مجموعة فضفاضة من الأفكار، التي توضّحت أكثر في أواخر ذاك القرن، لتبرير بعض الآراء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.

 

تعتبر الداروينية الاجتماعية أنّ بقاء الأصلح من المجتمعات تستند إلى أنّ ناسها كأفراد هم أساساً أفضل بالفطرة. وقد استخدمت الفكرة لتبرير الإمبريالية والعنصرية وتحسين النسل وعدم المساواة الاجتماعية في أوقات مختلفة على مدى القرن ونصف القرن الماضيين.

 

هذا مع العلم أنّ داروين كان يتحدث عن الانتقاء الطبيعي كنظرية علمية تركز على التنوع البيولوجي و لماذا تبدو أنواع النباتات والحيوانات مختلفة؟ لكنّ عالم الاجتماع هربرت سبنسر في «النضال من أجل الوجود» والخبير الاقتصادي توماس مالثوس، استخدما الفكرة المتعلقة بالبقاء على المجتمع البشري، واعتبرا أنّ الصفات الموروثة، مثل الجهد والصبر للأفراد، تتناسبان مع القدرة على تراكم الثروات المجتمعية، في حين أنّ الكسل والغباء بالفطرة يتسبّبان بالفقر. رسمَ هربرت سبنسر المزيد من أوجه التشابه بين نظرياته الاقتصادية ومبادئ داروين العلمية، واستند إلى فكر آدم سميث حول ترك السوق لتديره اليد الخفية للعرض والطلب، ليطلق فكرة أنّ المجتمعات الأصلح للبقاء هي الباقية والمهيمنة. وعارضَ سبنسر وضع أي قوانين تساعد العمال والفقراء، وأولئك الذين اعتبرهم ضعفاء وراثياً. وقال إنّ مثل هذه القوانين من شأنها أن تتعارض مع تطور الحضارة من خلال تأخير انقراض «غير الصالح».

 

وعلى عكس ما هو شائع، فإنّ مسألة تحسين النسل البشري لم تأت من ألمانيا النازية، بل من إنكلترا مع السير فرنسيس غالتن في أواخر القرن التاسع عشر، بهدف «تحسين الجنس البشري» من خلال تخليص المجتمع من «غير المرغوب فيه»، وذلك من خلال نشر تكاثر النخبة البريطانية. لكنّ هذه الفكرة أصبحت شعبية في أميركا حيث ان مفاهيم تحسين النسل سرعان ما اكتسبت قوة كبيرة. بلغت تلك الأفكار ذروتها في 1920 و1930، وشجّعت الكتب والأفلام على تحسين النسل، في حين أقامت المعارض المحلية مسابقات «الأسرة الأصلح» ومسابقات «أفضل للأطفال» في جميع أنحاء البلاد.

 

وخلال الجزء الأول من القرن العشرين، أصدرت ولايات أميركية قوانين للتعقيم القسري لأكثر من 64,000 أميركي من مهاجرين وأشخاص ملوّنين وأمهات غير متزوّجات ومرضى عقليين.

 

من هنا استلهَم أدولف هتلر تلك النظرية الوحشية، بكون بقاء العرق الألماني «الآري» يعتمد على قدرته على الحفاظ على نقاء تجمع الجينات الآرية. استهدف النازيون مجموعات أو أعراقاً معينة اعتبروها أقل شأناً بيولوجياً للإبادة. وكان من بين هؤلاء اليهود والغجر والبولنديون والسوفيات والأشخاص ذوي الإعاقة والمثليون جنسياً. والبقية أصبحت معروفة، فقد سقطت تلك النظرية بعد أن رأت البشرية أهوال هذا الفكر، وحوكِم من قاموا بتطبيقه عملياً، وأعدموا في نورمبرغ، مع أنّ أصحاب الفكرة الأساسيين بقوا، وبقي فكرهم حاضراً بقوة في عقول صنّاع السياسة المختبئين وراء القادة التنفيذيين لقراراتهم.

 

ماذا يعني كل هذا في زمن كورونا؟

 

ككل حدث أساسي في التاريخ المعروف والمدوّن، إنّ شيئاً كبيراً يتغير في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إن كان على الصعيد الشخصي، أو في المجتمعات بأنواعها، من صغير إلى كبير. وإن كان من غير الممكن اليوم توقّع نتائج الانتقاء الطبيعي للوباء، وخارج عن نطاق منطق المؤامرة الذي أصبح اليوم دارجاً الحديث عنه، إن كان متخيّلاً أو مبنياً على وقائع، فإنّ العالم بعد كورونا سيتغير حتماً، لكنّ الداروينية الاجتماعية هي التي ستحكم من جديد في كيف ستخرج المجتمعات من الكارثة. فستتمكن تلك القادرة منها على علاج التبعات الاقتصادية والاجتماعية، وقد يحدث تبدّل ما على صعيد من سيتصدّر العالم، لكن من سيدفع الثمن الأعلى هي المجتمعات الأقل قدرة على التأقلم مع الأزمة أولاً، ومع تداعياتها ثانياً.