IMLebanon

حين تتدخّل التكنولوجيا في “طقوس الموت” وتقهر الأحياء

 

لا وداع ولا من يمسح الدموع ويربت على الأكتاف

الموت انتقال والجنة موت الموت. ولكن، بين تسليم الروح وصعودها، مرحلة فاصلة يفترض أن يحصل فيها وداع وعناق ونظرة أخيرة وصلاة فوق النعش ومرافقة الفقيد حتى تخوم القبر لكنها أصبحت، في زمن كورونا، بلا معزين ولا عناق ولا مواساة حيّة وبلا ربت أيدٍ على الأكتاف ومسح البعض دموع البعض. فهل هذا الشكل من الوداع ما زال مطلوباً خوفاً من انتقال العدوى من الميت الى الأحياء؟ هل هذا النوع من أنواع الوداع الأخير يكفي في الصلاة والمواساة؟ وماذا عن ظاهرة الإبتكار في خدمات شركات حديثة لمراسم الدفن الإفتراضية؟ وهل يمكن أن يُمهد “الدفن أونلاين” الى نهاية طقوس المآتم التقليدية في لبنان والعالم؟

 

جميعنا مررنا بتلك اللحظة، التي احتجنا فيها الى من يربت على كتفنا في اللحظات الأكثر صعوبة في الحياة، أمام باب القبر، عند خسارة عزيز جداً، أما اليوم فيرحل الأعزاء بهدوء تاركين محبيهم يتخبطون في غيابهم بلا وداع. فهل الفيروس اللعين ينتقل من الميت الى الأحياء؟ هل هناك من لا يزال يعتقد بذلك؟ لأن لا شيء نهائياً مع هذا الوباء يظل هناك من يعتقد ذلك على الرغم من تأكيد منظمة الصحة العالمية أن جثث الموتى لا تعدي ولم يثبت أي دليل حتى اليوم على إصابة أشخاص نتيجة ملامسة شخص توفي بسبب كورونا أو الإقتراب من جثته المكشوفة. ثمة معلومات مغلوطة كثيرة في الموضوع. لهذا يستمر الخوف والقلق على المصير كبيراً. ولهذا نسمع من يردد من المؤمنين بصوت عال: “يا رب إجا وقت لازم تفرجي العالم قوتك”. لكن، بحسب الأب بيتر حنا سنسمع في قرارتنا الرب يجيبنا: “يا أولادي إجا الوقت تفرجوا ثقتكم بي”.

 

الصبر عند المصيبة يُسمى إيماناً. ولكن، يا لهول ما يعيشه الناس في هذا الوقت خصوصاً عند وداع الأحبة الذين يموتون وحدهم ويرحلون وحدهم. فماذا عن ظاهرة الوداع الافتراضي؟ سينتيا قزي قدمت أطروحتها تحت عنوان “كيف يستخدم اللبناني الفيسبوك للتعبير عن حزنه؟”. الدراسة أجرتها قبل أن يصبح الفيسبوك و”زوم” والتواصل الإجتماعي وسيلة تعبير وحيدة. وهي خلصت الى أن الفيسبوك أصبح مساحة افتراضية للتعبير عن الحزن والتواصل مع الراحل وأهل الراحل. المنصات الإجتماعية أصبحت وسيلة لتعبير اللبنانيين عن الفجيعة الافتراضية. فتكرج عبارات كانت تستخدم في الوداع التقليدي ولكن افتراضياً فتوضع تحت أوراق النعوة عبارات من نوع: نفسه (أو نفسها) في السماء. المسيح قام. رحمه الله وأسكنه جناته. إنا لله وإنا إليه راجعون. والبقاء لله. ومع الأبرار والقديسين. وله (أو لها) الرحمات. عبارات باتت الحدّ الفاصل بين الموت والعزاء. علّها تريح الميت والحيّ. المنصات الإلكترونية أتاحت مشاركة أصحاب الحسابات الإلكترونية عواطفهم ومشاعرهم ومؤاساتهم مع الآخرين مستخدمين نفس اللغة التي كانوا يستخدمونها أمام المقابر في لحظات الوداع والعزاء.

 

إن مرحلة الحزن مهمة ومهمة جداً ويجب ان تمر بسلاسة حتى يتمكن الشخص من التغلب على الخسارة بأقل ضرر ممكن. الحزن هو الشعور الذي، إذا لم يتم التعبير عنه في شكل صحيح، فسيخلق ضائقة نفسية طويلة الأجل ويتحول الى كآبة”.

 

الميت لا يعدي. ومراسم الدفن الإفتراضية تمنع الانسان من عيش مراحل الموت والحزن. ومجمع العبادة الإلهية وتنظيم الأسرار في الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان أفشى أنه لا يمكن لقداس إفتراضي أن يحل محل قداسات الكنيسة. هذا الكلام ينبه الى أن الإحتفال الليتورجي لا يمكن أن يتساوى مطلقاً مع المشاركة في الكنيسة أو أن يحل محلها. وقداسة البابا سبق وحذر من خطر “الإيمان الإفتراضي” من دون ممارسة الأسرار والشراكة. وأن الإلفة من دون خبز (الذي هو رمز الشراكة) ومن دون كنيسة وشعب وأسرار خطيرة. كلام الفاتيكان يلفت الى أن هذا النوع من القداديس أو المآتم لن تُصبح نهائية لأن الأسرار ليست افتراضية وشعب الله ليس افتراضياً والكنيسة وشعب الله ملموسان.

 

نحن في زمن كورونا. زمن العجائب والغرائب. وكثير من اللبنانيين ودّعوا أعزاء افتراضياً. فالميت بسبب كورونا يعدي. وبعض الأهالي “اللزم”، في حالات كثيرة، تابعوا المراسم “أونلاين” أيضاً لأنهم مصابون. والمعارف قدموا التعازي “أونلاين” خوفاً على أنفسهم. كل شيء تغيّر. وفي أوقات التغيير تنتهي أعمال وتولد أعمال. ومن الأعمال الجديدة: نقل المآتم إفتراضياً. فها هي مكاتب دفن الموتى قد تبدلت مهامها كلياً وبات أهل الميت يكتفون بتابوت وأوراق نعوة وببعض باقات الورد الأبيض من المكاتب التقليدية أو يوكلون بها الى مكاتب أكثر حداثة. وفي هذا الإطار، انطلقت شركات جديدة تنقل “الحدث” افتراضياً الى من يريد المشاركة. ففي الخارج عشرات الشركات انطلقت تحت اسم “تجمعنا” (gathering us) وتحت عناوين “غاب الى الأبد” (forever missed) و “ذكريات” (memories) و”لا يذهب أبدا”(never gone). مفهوم الوداع في الخارج مختلف عن مفهومنا نحن. اللبنانيون اعتادوا أن يجدوا من يؤاسيهم طوال أيام عزاء ثلاثة. في الخارج اعتادوا على الوداع البسيط. ولكل إنسان أكان أجنبياً أم عربياً أم لبنانياً طريقته في التعامل مع الموت وطقوس الوداع. فهناك من يفضل التعامل مع حزنه بنفسه في حين يجد آخرون الراحة في مشاركة ما يشعرون به مع الآخرين ولو من خلال مأتم إفتراضي. ورواد حسابات التواصل الإجتماعي أصبحوا اليوم معتادين أكثر من أي يوم مضى على الموت والحزن والعزاء والمشاركة في طرق مختلفة عمّا قبل.

 

الأب بيتر حنا يقول في خواطر الموت: “كل شيء في الحياة يتطور إلا مشاعر الموت تبقى “دقة قديمة” أي صادقة وعلى بركة الله”. فهل هذا التطور يخنقنا أكثر مما يريحنا؟

 

نحن نعيش الحزن الإفتراضي والألم الافتراضي والعزاء الافتراضي. وهذا لزوم قدرنا مع كورونا. فهل الحل للحزن الكبير الذي يجتاح من يخسر عزيزاً هو المأتم التقليدي؟ كل إنسان يتفاعل مع الخسارة في شكل مختلف. وهناك أشخاص إذا لم يتشاركوا جسدياً في الوداع يعيشون في إنكار للموت وصعوبة في التكيف مع بيئة روحية جديدة. وهنا نسأل، هل من يُنشئون المجموعات التذكارية وينقلون لحظات الرحيل ويستثمرون في شكل كبير في التكنولوجيا وطقوس الموت والدفن غير التقليدية فاشلون؟ هو المرّ الذي انبعث في مرارة أيامنا وألزمنا باللجوء الى الطقوس الوداعية الإفتراضية. ندور بين مآتم أحباب “الأصدقاء الفيسبوكيين” فنراها مليئة بصور من رحلوا ونراهم يجيبون على الرثاء باسم الراحلين فهل تساعد هذه الصفحات الفيسبوكية على إبقاء الراحلين أحياء؟ هنا تتدخل الشركات التي بدأت تدخل الى لبنان من أجل إبقاء الأموات أحياء مقابل مبلغ معين. فهذا عمل، وقد ينشط لبنانياً أكثر فأكثر. نراهم يعدون فيديوات مؤثرة كوسيلة مؤاساة للأسرة الحزينة مقابل بعض المال.

 

كل الحياة انقلبت رأساً على عقب. نقلب بين أوراق النعي. نتأثر. نضع علامة الحزن وعبارة: فلتكن نفس المرحوم (أو المرحومة) في السماء. ونتابع السير بين “بوستات” التواصل الإجتماعي، لنعود ونصطدم بورقة نعوة جديدة. نكرر ما سبق وفعلناه ونتابع من دون أن نربت بيدنا على كتف محزون ونشارك حضوراً في وداع متوفٍ. ذكرى عاشوراء الماضية حصلت هي أيضاً بلا مسيرات ولطميات ودموع. والإسلام كما المسيحية دين جماعة. والجوّ الجماعي مختلف كلياً عن إحياء الطقوس فردياً أو بين أفراد تفصلهم عن بعضهم شاشات وهواتف ذكية. تُرى التكنولوجيا أتت لصالحنا أم على حسابنا؟ سؤالٌ إجابته لن تكون حاسمة اليوم أبداً.

 

كثيرون ممن فقدوا عزيزاً لن يصدقوا، أقله الى حين ليس بقريب، موته لأنهم لم يشيعوه ولم يرافقوه حتى باب القبر ولم يلقوا عليه النظرة الأخيرة ولم يروا بالعين المجردة وبالإحساس الجسدي من يقف الى جانبهم ويساندهم ويغمرهم ويحتضن وجعهم. هي أحاسيس تطغى في هذا الزمان حيث لا بيوت عزاء مفتوحة.

 

الطقوس الدينية تتغير ونحن أيضاً لكن يظل الإنسان إنساناً ويظل الحزن حزناً وسيظلّ كورونا ذاك القاتل الذي أساء الى الأحياء أكثر من الأموات.

 

أضاعوا المقبرة

 

«بين تشخيص إصابة جدتي لوالدتي بكوفيد 19 ووفاتها أيام قليلة. الموت حق خصوصاً وأنها على مشارف التسعين» يقول شربل (20 عاماً) «توفيت في بيت راحة مع إثني عشر مسنّاً، تاركة قبيلة من الأحفاد. ولم يمش في دفنها سواي وزوج خالتي. كانت التعليمات واضحة. من المأوى إلى المقبرة مع عدم إمكان فتح التابوت بعدما وُضعت الجثة في كيس. أليس غريباً هذا الأمر؟» سأل شربل مستطرداً «هل ينتقل هذا الفايروس من ميت إلى حي؟ ممّ الخوف من إلقائنا النظرة الأخيرة على جدتي سيدة؟» تولى زوج خالتي الإجراءات والتنسيق هاتفياً مع منتدب من شركة دفن الموتى والمسؤول عن المقابر لتنظيف المدفن وذلك قبل 24 ساعة من الوداع الأخير. بعد صلاة مختصرة حمل 4 شبان التابوت يتقدمهم سائق سيارة دفن الموتى، المسؤول عنهم، الذي توجه إلى زوج خالتي بالسؤال: أين المقبرة؟ استغرب عمي الأمر وسأله: ألم تأتِ أمس وتستطلع المكان؟ فأجاب: ما تواخذني، من كشف على المقبرة أمس لم يحضر اليوم لارتباطه «بتلات دفوني» في ساعتين. سأستوضح منه حقيقة الأمر».

 

يتابع شربل «بدأت الإتصالات. هون لأ مش هون. وضع الشباب جثمان جدتي على الأرض وبدأوا يفتشون على المقبرة. بعد ربع ساعة من المسح الميداني اكتشفوا المكان المعد لراحة جدتي الأبدية. فأدخلوا التابوت على عجل على وقع رنين الواتسأبات. أدّوا المهمة وهرولوا إلى دفن آخر».