Site icon IMLebanon

كورونا في لبنان… أعجوبة!

 

هل يتذكّر أحد منّا متى كانت آخر مرّة اجتمع فيها اللبنانيون على شخص، على فريق، على فكرة أو موقف أو حادثة أو كارثة؟

 

هل يتذكّر أحد، سواء كان مولوداً في عام 1900 أو في عام 2000، لحظة واحدة في حياته المُلبننة إتّفق فيها مع جاره أو أبناء البلدة المجاورة أو زميله على أي موضوع بلا محسوبيات واصطفافات وأوليّات طائفية ومناطقية وحزبية؟

 

فمن سابع المتسحيلات أن يكون أيّ واحد أو واحدة فينا عاش هكذا لحظات قبل أن يجتاح فيروس كورونا مدننا وقرانا ومجتمعنا… وكأنما هذه الملعونة التي خَضّت العالم أجمع حلّت كأعجوبة علينا، فجَمعتنا ووحّدتنا ورصفتنا لأول مرّة في حياتنا خلف شيء واحد، حتى وإن كانت كارثة تهدّد صحّتنا وحياتنا واقتصادنا.

 

وإذا كانت كورونا قد أرعبت أقوى دول العالم وأعادَتها إلى داخل حدودها الجغرافية لتنتبه إلى صحّة شعبها… فكورونا أعادت اللبنانيين إلى رشدهم، وأعادتهم إلى إنسانيتهم ووطنيتهم، وأصابتهم بعدوى التكاتف والتآخي بلا شروط.

 

وكأنما هذا الوجع الجماعي أعاد المسؤولية إلينا، فأصبحنا نحن الوطن وأصبح الوطن همّنا وانشغالنا… أقفلت جوامعنا وكنائسنا، ووصدت أبواب منازلنا ورزقنا، فزرعنا السجادة في صالوناتنا بذوراً وطنية كانت مخفية خلف صدى أحاديث يملؤها الضجيج، واستعملناها للصلاة والعمل والعيش في آن. هذا الوجع الجماعي أخرسَ السياسيين وأعادهم إلى حدود بيوتاتهم السياسية العَفنة، فغاب حسّهم وانعدم نشاطهم، وانكشف جبنهم في وجه الأزمات، واتّضَح أنهم لا يملكون أيّ وعي لمواجهة التحديات متى كانت وطنية، وكانوا يتشاطرون في التحديات الطائفية والمناطقية، فطبلوا رؤوسنا لسنوات بعَنترياتهم التي ما لبثت أن تلاشت أمام أول هبّة وطنية جامعة.

 

آخر همّنا السياسيين الآن، وآخر همّنا رأيهم وموقفهم وخططهم… فمن يلتفت إلى هؤلاء بعد أن ربحنا بعض وأصبحنا نعيش من أجل بعض. حملات المساعدات تولد بالساعة في كل المناطق، فتتدفّق الأدوية والمواد الغذائية والملابس والأموال من داخل لبنان وخارجه، والجميع يساعد من دون أن يسأل لمن وإلى أين؟ نسي الشعب كل شيء كان يقسمه والتفتَ إلى الشيء الوحيد الذي يجمعه وهو الطاقم الطبّي والتمريضي الجبّار الذي استطاع بفضل هذا الدعم الشعبي المهول أن يجنّب لبنان حتى الآن كارثة إنسانية كبيرة، كانت تملك كل مقوّمات التقصير والاستهتار حتى تكون حقيقة موجعة.

 

منذ متى كان اللبنانيون يقفون على شرفات منازلهم في كلّ المناطق ومن كل الانتماءات السياسية ليصفّقوا في نفس الساعة والدقيقة للممرضين والممرضات والأطباء والمتطوعين والمسعفين، ويعبّروا مجتمعين عن تضامنهم بلا ميكروفونات ومنصّات وكاميرات وأعلام ملوّنة ووعود ملوّثة.

 

أعجوبة كورونا أنها أظهرت للبنانيين قدرتهم على الحياة في عزّ الموت، وكشفت لهم الأمل المختبئ في كل هذا الخوف… أعجوبة كورونا حصلت لأنّ صلوات أمهاتنا التي ترتفع من خلف شبابيك منازلنا لم تعد محصورة فينا وبصحّتنا، بل باتت صلوات تفرد رداءها الحريري على مساحات أولئك الذين كانوا غرباء في الوطن، وفوق رؤوس أولئك الذين علّمونا أن نخاف منهم، فاكتشفنا أنّ خلاصنا لا يمكن أن يحصل إلا بخلاصهم.

 

كم كان لدينا أعداء، وكم كان لدينا أوهام، وكم امتلأت تواريخنا المقسّمة حسب اصطفافاتنا إلى تواريخ انتصارات وخيبات وهزائم واغتيالات… كم كان لدينا أسباب لنفترق، وأصبح لدينا سبب واحد لنجتمع، سبب واحد لنشبك أيدينا بأيدي بعض، وسبب واحد لنعيش من أجل أن يعيش الآخرون، بعد أن كنّا مستعدّين أن نموت حتى يموت الآخرون.