Site icon IMLebanon

الكورونا أكثر من فيروس

 

كان كل شيء يسير على ما يرام دوليا إلا أن أتت الكورونا لتضرب الكثير وتؤشر الى عجز الانسان والدول أمام التحديات الجدية. كان المواطن غاضبا في بعض الدول، لكنه لم يكن يتوقع أن صحته على المحك وأن ليس له مكان في المستشفى اذا ما اضطر لذلك. أتت المفاجأة الصعبة التي تفوق كل مشاكل الماضي لتؤشر الى الكثير في التقصير والهدر والفساد. بعد عقود من النمو والديموقراطية والحريات، ليست هنالك أسرة كافية في أهم المستشفيات في العالم. أصابت الكورونا العديد من المسؤولين في أرقى الدول مما يشير الى سوء التحضير بل الى الاستلشاء تجاه مخاطر جدية. الى أين نحن ذاهبون وما هو مستقبل الانسان في هذا العالم المادي الخطير؟

 

الدول تعجز عن استقبال المرضى في المستشفيات وتطلب من المواطنين البقاء في المنازل، أي سجن النفس طوعا خوفا من الأعظم. أثبتت الكورونا عجز الأنظمة الصحية التي أنفقت الدول عليها المليارات. تعجز الأنظمة عن مواجهة مخاطر جدية كالكورونا. الولايات المتحدة تقول أن امكاناتها ليست بحجم متطلبات الكورونا. اذا كان هذا الحال بالنسبة للدولة الأعظم، فماذا نقول عن دولنا المتواضعة ذات الامكانيات الأقل بكثير. الكورونا أنهكت الاقتصادات والامكانات قبل أن تنهك المسؤولين والمواطنين طبعا.

 

هنالك انتفاضات تحصل عالميا اعتراضا على سوء خدمة المواطن ليس فقط في لبنان وانما أيضا في فرنسا وهونغ كونغ والعديد من الدول الأخرى. هذه الانتفاضات ستقوى بعد الكورونا لأن عجز السياسات الصحية فاضح ولأن تردد المسؤولين أمام طرق المعالجة يدعو للعجب. هل بنينا دوليا الأنظمة الصحية المناسبة لتحديات بحجم الكورونا أم هدرنا قسما كبيرا من الايرادات في جيوب السياسيين وشركات الأدوية والاستشفاء والسلع والخدمات الصحية بما فيها المستشفيات والمستوصفات طبعا.

 

في الولايات المتحدة، يقول وزير المالية أن نسبة البطالة ممكن أن تصل الى 20% بسبب الكورونا. الاقتصاد غير مجهز لمعالجة نسبة كارثية تحصل في أسابيع قليلة. سترسل وزارة المالية مساعدات خلال اسبوعين للأميركيين خاصة من الطبقات الوسطى وما دون ليتمكنوا من شراء الحاجات الأساسية الغذائية والصحية. سيرفع هذا الواقع من عجز الموازنة الكبير الذي يشكل نقطة سوداء في ادارة ترامب للبلاد. اذا كانت أميركا عاجزة ومترددة، فكيف يكون حالنا في الدول المتواضعة ماديا وماليا.

 

تبعا لما يحصل اليوم دوليا وخاصة في قلب أوروبا، لا بد وأن يشعر الانسان بالأسف للخسائر الحاصلة في البشر والمادة والتي سيدوم تقييمها لفترات طويلة بعد الكورونا. هنالك خسائر يمكن رؤيتها بالعين المجردة وأخرى أهم تضرب صحة الانسان ومعنوياته ونفسيته كما ثقته بنفسه ودولته. الانتفاضات الشعبية التي ستحصل دوليا وخاصة في الدول التي أصيبت ستفاجئ السياسيين ولا بد أنهم سيندمون على سوء التصرف وضعف البناء كما على الاهمال. تغيير الأوضاع سيتطلب وصول قيادات جديدة شفافة كفوءة الى الحكم في تلك الدول تخاطب الرأي العام بصدق ومعرفة ورغبة صادقة في الاصلاح. المحاسبة ضرورية على التريليونات التي أهدرت على القطاع الصحي والتي لم تصمد أسابيع في وجه فيروس كالكورونا اعتقد الرئيس ترامب أولا أو تمنى انه وهم أو كذبة.

 

السياسيون لم يقرأوا جيدا بعد النتائج الجدية التي ستنتج عن الكورونا. لا زالت المواجهة صحية لكن المواطن بدأ يتساءل عن هشاشة البناء والمفاجآت التي حصلت ولماذا لم تكن التحضيرات افضل بكثير. الحجر في المنازل ليس حلا انما هو لتجنب الكارثة فقط والعالم ما زال غير قادر على المعالجة الطبية التي ليست بمستوى التحديات. العالم يتغير تحت الضغط الشعبي ولا يمكن مواجهة الرأي العام المطالب بالحق والعدالة والاحترام وحسن المعاملة الا بالشفافية والمحاسبة. الشعوب أصبحت اليوم جريئة في مطالبها وفي الحصول على حقوقها. يستعد الناس في كل الدول للمطالبة بالحقوق بجرأة وصراحة وصوت عال عندما لا تسمعهم الحكومات وتحاول تفريقهم. هل مواجهة الشعب أهون وأقل تكلفة من تلبية المطالب العادلة التي تبني المستقبل أولا وتحاسب ثانية؟

 

لا يعرف بعض الناس أن الركود الكبير في سنة 2008 لم يكن ركودا اقتصاديا فقط، بل أحدث ثورة سياسية في كل أنحاء العالم. سبب الركود الكبير كما ستسبب الكورونا وعيا غير مسبوق عند الشعوب اذ لماذا نتوقع مثلا أن تستمر الجماهير في تأييد الأنظمة القائمة التي لا تحمي صحة الشعب وتخفق في المعالجة عند أول تحد جدي؟ لماذا لا نتوقع من الأكثريات الشعبية أن تثور على كل شيء لتغيير الأوضاع عندما ترى أن تحالف الأقلية السياسية مع الأقلية الميسورة يسيء الى مصالحها ومستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة. الأجيال الخاسرة في 2008 نتيجة الظروف وسوء التصرف السابق طالبت بالتغيير السياسي والديموقراطي والاجتماعي وليس فقط الاقتصادي. «العدالة الاجتماعية» أصبحت عقيدة تنفيذية جديدة ولا يمكن تأجيل زمن التغيير.

 

شجعت أزمة 2008 وما أحدثته في الأسواق المواطنين على التنظيم ضمن مجموعات ذات أهداف مشتركة تطالب بحقوقها كتجمعات النساء والمعاقين والمهن الحرة. لم تعد المطالبة الكلامية كافية، بل لا بد من حسن التنظيم والمطالبة بالحقوق بكافة الطرق المشروعة. عالميا لم تعد المطالبات تجري بهدوء بل هنالك دائما نوع من العنف الكلامي اذ إن التعلق بالمصالح من قبل السياسيين أصبح كبيرا والتنازل عنها أصبح صعبا. هنالك ظلم في كل المجتمعات يفهم أولا من التعبير العادي أي مثلا من مخاطبة النساء كالرجال وعدم احترام دور المرأة في المجتمعات. ما زالت فجوة الأجور والمنافع والحقوق كبيرة بين الرجل والمرأة لنفس العمل في كل الدول علما أن الفجوة أوسع وأكبر في الدول النامية. ما زالت فجوة الدخل كبيرة بين الأعراق كالفارق الاحصائي الواضح بين الشخص الأبيض والأسود في معظم الدول وفي الولايات المتحدة تحديدا. يمكن أن نلاحظ نفس الفوارق بين الأديان في بعض المجتمعات اذ تغلب عندها الغريزة على العقل. تقدمت المجتمعات دون شك، لكن الظلم ما زال كبيرا حتى في أرقى المجتمعات كالاسكندنافية.

 

الظلم يجعل الانسان يشك في نفسه وفي حياته وفي قدراته وبالتالي مرفوض. قال الفيلسوف الفرنسي «جان جاك روسو» إن الانسان ليس سيئا وقلبه ناصع البياض لكن الخطأ يكمن في الممارسات الخاطئة التي تدفع اليها المجموعات المتطرفة في أقصى اليمين واليسار. ساهمت كثيرا وسائل التواصل الاجتماعي في الدفع الى التطرف، اذ إن الحوار وجها لوجه خف وأصبحت المواقف تعلن عبر هذه الوسائل مما يفسر حديتها. الحوار يخفف التطرف ويجعل الانسان يفهم الآخر أكثر.

 

من المهم جدا ودائما أن تتكون في المجتمعات مجموعات تفكر ايجابا أي تنظر الى المستقبل بعين بيضاء، فتساهم في تقوية الثقة وتمنع انتشار الرسائل الغاضبة والسيئة وتزيد اللحمة. تساهم الأفكار الايجابية في تفعيل القرارات الجيدة في الاستثمار والانفاق والنمو. العامل والموظف والاداري اليوم خائف من المستقبل، أي مثلا من امتداد «الذكاء الاصطناعي» الذي يمكن أن يحل مكانه. الأفكار السيئة الخاطئة المبشرة بالأزمات مثلا تنتشر بسرعة أكثر من الأفكار الجيدة. لذا المطلوب في المجتمعات التي تمر بظروف خطيرة وصعبة أن تحافظ على الحريات وتشجع على المنافسة وتطبق السياسات التي ترفع الانتاجية وتحاول تخفيف فجوتي الدخل والثروات. لا شك أن المواطن سيتعلم كثيرا من أزمة الكورونا التي ليس لها سوابق في تاريخنا وبالتالي ستغيره ليس فقط في ميادين العمل وانما أيضا في علاقاته في المجتمع.