IMLebanon

كورونا الإرهابية إلى أين؟ وماذا بعد؟

 

لأكثر من نصف قرن إنشغل العالم بظاهرة الإرهاب، إلى أن توصّل مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قراره الشهير رقم 1566 تاريخ 8/10/2004 الذي عرّف الإرهاب الدولي على أنه « كل عمل جرمي ضد المدنيين بقصد التسبُّب بالوفاة أو بالجروح البليغة أو أخذ الرهائن من أجل إثارة الرعب بين الناس أو إكراه حكومة ما أو منظمة دولية للقيام بعمل ما أو للإمتناع عنه، وكل الأعمال الأخرى التي تشكِّل إساءات ضمن نطاق المعاهدات الدولية المتعلِّقة بالإرهاب.

 

ووفقًا لتعريفها، ولا يمكن تبريرها بأي إعتبار سياسي أو فلسفي أو أيديولوجي أو عرقي أو ديني». وبعد أكثر من عقد من الزمن أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 71/291 تاريخ 15/6/2017 القاضي بإنشاء مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب ليضطلع بمهام قيادة جهود مكافحة الإرهاب بموجب الولاية الممنوحة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتعزيز التنسيق بين كيانات فرق العمل المعنية بالتنفيذ في مجال مكافحة الإرهاب لضمان التنفيذ المتوازن لأركان استراتيجية الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، وتعزيز تقديم المساعدة إلى الدول الأعضاء في بناء القدرات في مجال مكافحة الإرهاب وتحسين الرؤية والدعوة وتعبئة الموارد لجهود الأمم المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب، كما وضمان إعطاء الأولوية الواجبة لمكافحة الإرهاب على نطاق الأمم المتحدة، وأن يكون العمل الهام في منع التطرف العنيف متجذّراً بقوة في الإستراتيجية. ولا بدّ هنا من التذكير بموقف لافت للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش اعتبر فيه أن الإرهاب في الأساس هو إنكار لحقوق الإنسان وتدمير لها، والحرب ضد الإرهاب لن تنجح أبدا بإدامة نفس هذا الإنكار والتدمير. يجب أن نحارب الإرهاب بلا هوادة لحماية حقوق الإنسان. وفي ذات الوقت عندما نحمي حقوق الإنسان، فإننا نعالج الأسباب الجذرية للإرهاب.

 

الآن يرزح العالم بأسره تحت جائحة كورونا التي تستهدف البشرية بأكملها والدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وحتى مقرّ المنظمة الدولية ومحيطها يخيّم عليه شبح الإصابة إن لم نقل الموت بفعل تلك الجرثومة غير المنظورة إلا بالمجهر. والسؤال المطروح اليوم: أيّهم الأخطر كورونا أم الإرهاب؟ فالإرهاب توصّل إلى ترويع الشعوب والدول بضربات محدودة جغرافياً ومتقطعة زمنياً، وبقي دعاته في حالٍ من التخفي والهروب إلى حين إكتشافهم تباعاً ليتمّ تجريد الحملات العسكرية المدجّجة بآلات الحرب المدمّرة فيتحقق الإنتصار المرحلي في البقعة المستهدفة، وبعدها يتمّ رصد أماكن أخرى ربما احتمى فيها إرهابيون. لكن لا الأعمال الإرهابية ولا أنشطة مطاردة الإرهاب أدّت إلى شلّ دورة الحياة ولا عجلة الإقتصاد العالمي ولا هي أثّرت على العلاقات الإنسانية والإجتماعية. أما كورونا فقد أوقفت العمل ولأجل غير مسمّى بمعظم الأنشطة القطاعية والخدمات والإدارات وأوقفت رحلات الطيران والنقل البحري، ووصلت إلى حدود منع التجوّل وسمّرت الناس في البيوت وجعلت من التباعد الاجتماعي حلاً وقائياً وبات الإنسان حذراً من أقرب الناس. وحدها وسائل التواصل الاجتماعي بقيت متاحة لتحلّ محل التقاليد والعادات الإجتماعية التي راكمتها البشرية على مرّ العصور. والمؤلم أن ترسانات العالم بأسره عجزت حتى اللحظة عن التصدّي للجرثومة الصغيرة بالرغم من تحديد مكان وجودها، والأشدّ إيلاماً هو إعتراف النظام العالمي بعجزه أمامها.

 

نعلنها بصراحة وبالفم الملآن: كورونا تفوّقت على الإرهاب وباتت أخطر منه، وأشدّ ضراوة وفتكاً لأنها آلة قتل تعتمد المساواة بين البشر دون تفرقة ولا تمييز.

 

كورونا الإرهابية خلت لها الساحة، لأن المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن وسائر المنظومات الإقليمية والدولية لم تتوصل حتى الآن لوضع حدّ لاجتياحها المستمرّ منذ أشهر ولا حتى لأي تصوّر لمرحلة ما بعد السيطرة عليها، وكيفية معاودة العمل والإنتاج والإستهلاك والحركة والأمن الغذائي والصحّي، وهي التحديات المستجدة في مرحلة ما بعد كورونا. تحديات ترقى إلى مستوى التهديدات التي لن توفّر أحداً لا في الشرق الأوسط ولا في القارات كافة، وسيبحث العالم بأسره عن نظام إقتصادي جديد لأن ما كان قائماً قبل وباء كورونا لم يعد قابلاً للإستمرار.

 

وللإنصاف ليست المنظومة الصحية العربية أو الخليجية وحدها التي سقطت، بل إنهارت معها أنظمة دول عظمى كانت تتباهى حتى الأمس القريب بحقوق الإنسان والطبابة الميسّرة والمتاحة لمواطنيها ولسائر شعوب الأرض، وها هي اليوم تنشغلُ بتعداد وفياتها، وبعضها يفتش عن الأولى بالحياة كبار السن أم الشباب لوضعهم على التنفس الإصطناعي!

 

فالاتحاد الأوروبي ينازع للاستمرار، والولايات المتحدة الأميركية باتت تفتش عن عزل ولاياتها التي كانت متحدة ولا ندري إن كانت ستُعلنُ دولة منكوبة؟ روسيا تعزل مناطقها وتمنع التجول، وبريطانيا تدعو مواطنيها لوداع أحبائهم، ولم يعُد من عتبٍ على مجاهل إفريقيا، وما عُرف بجمهوريات الموز الفاقدة للمقاييس. والصين التي باتت بلداً ليبرالياً رأسمالياً بعباءة اشتراكية، كانت في مقدمة الذين ذاقوا طعم وكلفة الوباء الشرس، ولن تكون بمنأى عن تداعيات كورونا في الأسواق الدولية التي ستضطر إلى إعادة النظر بصناعاتها تأميناً لفرص عمل مواطنيها وإقتصادها المحلي. ربما أصبحنا أمام واقع جديد إنهارت فيه أسعار النفط والغاز واختلّت فيه قواعد العرض والطلب، والكثير من الشركات وقطاعات الإنتاج تحضّر للإقفال، وفرص العمل للملايين من عمال الأرض في مهب الريح، والعاطلين عن العمل سيصبحون أكثر من دافعي الضرائب، والبورصات العالمية ستتدحرج تبعاً لكل ذلك. التفكير يجب أن ينطلق من هذا الواقع المستجد، لصياغة نظام جديد للحياة الإنسانية قبل أن يكون لخدمة القضايا السياسبة المتناحر عليها، ولن يكون غزو الفضاء مفيدأ خشية أن تسبقه غزوات أهل الأرض المُهدّدين في رزقهم وعيشهم الكريم.

 

هذا الواقع المستجد يحتّم على الدول وضع أسس جديدة لأنظمتها الطبية، وللإنتاج المرتكز على إعادة النهوض بالمنتج الوطني الزراعي والغذائي بإحياء زراعة البقوليات والنباتات الطبية والزيتية والصناعية عن طريق إستغلال الأراضي الزراعية التي هجرها أصحابها بزحفهم إلى المدن الكبرى بحثا عن العمل المأجور والعيش على أطرافها في أحياء عشوائية تفتقد لأبسط مقومات الحياة الصحية، الأمر الذي يوجب التصحيح وإعادة الاعتبار للقطاعات التقليدية التي تم إهمالها لصالح السياحة والخدمات والإعتماد على الثروات الطبيعية كالنفط والفوسفات والغاز والحديد والذهب وغيرها، ويبقى ما يستدعيه هذا التصحيح من الحكومات من دعم مالي لإعادة استغلال تلك الأراضي ولدعم قوة العمل الشابة في الأرياف أقل بكثير من كلفة أي أزمة كالتي نشهدها حالياً بسبب كورونا، إضافة إلى إسهامه في تخفيف الازدحام والتلوث والنفايات في المدن المكتظة وكلها عناصر مساعدة على إنتشار الأمراض والأوبئة التي تكلف مواجهتها المليارات تلو المليارات.

 

وفي المحصلة لا بد من أن تعود الدول لممارسة دور أكبر في تحقيق الرعاية الصحية والإجتماعية، تبعاً لقواعد إحترام قيمة الإنسان، وحقه في العلاج والرعاية الإجتماعية بصرف النظر عن وضعه المالي، مع تخصيص الإعتمادات اللازمة لبناء المدارس والجامعات والمستشفيات ومراكز الأبحاث، ومعالجة الإختلالات الإقتصادية والإجتماعية، ما يعني المرور بفترة إنتقالية تمهيداً لتركيز نظام عالمي جديد يحقق التبادل التجاري العادل، إضافة إلى تعزيز الإقتصاد الإجتماعي التضامني، وإلا سنواجه زلزالاً بشرياً من نوع آخر لا تنفع معه الكمامة أو القفازات.