حتى فيروس كورونا يأنف البقاء في الربوع اللبنانية. كيف يبقى في بلد يتم فيه إتلاف 20 طناً من حليب الأطفال المفقود منذ بداية ارتفاع سعر صرف الدولار على الليرة اللبنانية. وبالرغم من ذلك لا يتحرك أحد ليلقي القبض على المتاجر بأرواح الأطفال؟
بالطبع لن يبقى في بلد يتباهى فيه وزير الصحة بأنه صاحب إنجازات هي الأولى من نوعها في العالم مع إقفال الصيدليات أبوابها احتجاجاً على تحكم كارتيلات الدواء بالمرضى، في حين يعرف المواطن ان الاستهتار بصحة الناس لقاء تحصيل المزيد من المال الحرام هو من شغل الصيدليات ام تجار الأدوية أم المافيا المستعصية على التفكيك، كما كل مافيات البلد والمترسخة بين وزارة الصحة والتجار والمستشفيات والصيدليات.
أي إنجازات يحق للوزير او لغيره من الوزراء التباهي بها؟ فأزمة القطاع الاستشفائي على حالها وإلى استفحال. وفضيحة تأمين المستلزمات والمعدّات الطبية، تكشف المستور/المعلوم، ولا تحاسب أحداً، ليقتصر الأمر على تقاذف القيمين على القطاع والعاملين في مرافقه بالإتهامات والتراشق بالمسؤوليات.
والمضحك هو التحدي والمطالبة بالإعلان عن أسماء المتورطين بالمافيا في وزارة الصحة، التي يفترض أنها تتحكم بالاستيراد والجودة والسعر وتسجيل البضائع. وبالطبع لمصلحة التجار حتى تاريخه، تعميماً لمبدأ “نيال من أفاد واستفاد”.
فآخر التقليعات هي محاولات التعفف التي يلجأ إليها مجرمو العهد القوي بكل أطياف منظومتهم، بعدما حمى المحور وجودهم وقضى على بذور محاولة اقتلاعهم، بحيث يواصلون مرض النكران ويعيشون في كوكبهم الخاص، يديرون شؤونهم التي لا علاقة لها بشؤون الناس، في حين ينشط المحور لينفذ مشاريعه بعدما نضجت طبخة الانهيار والافقار.
ربما من هذه الزاوية يمكن قراءة الاقتحامات التي تركزت محاورها على أسعار المستلزمات والمعدات، وهدفها ليس المواطن المنكوب والمهدد بالموت، ولكن التمهيد لاستيراد هذه السلع المرتبطة بالقطاع الطبي، وبالليرة اللبنانية من إيران، ربما. وذلك أسوة بما يحصل مع استيراد الأدوية التي لم تحصل على شهادة بصلاحيتها من منظمة الصحة العالمية.
فالكلام المنمق والمطعم بمفردات أجنبية، ليعطيها مصداقيةً ووقاراً وحداثةً، لا يلغي أن الجماعة يجيدون استغلال ظروف الإنهيار المتسارع لمرافق الدولة ومؤسساتها بغية ملء الفراغ بالسلع الإيرانية المناسبة.
لم يعد سراً أن المطلوب فتح السوق اللبناني للإقتصاد الإيراني المتهاوي. وما كان يقتصر على البيئة الحاضنة، يجب أن يتمدد ويشمل البلاد من النهر الكبير الجنوبي حتى تخوم فلسطين المغتصبة، ومن جبل الشيخ ونقطة المصنع وجرود عرسال والهرمل حتى الساحل الممتد شرقي البحر المتوسط.
فهذه الاستراتيجية لم تعد تحتاج الى عبقرية لإكتشاف مراميها. ويجب أن تشمل برعايتها الوقود والكهرباء والتعليم. وطريقها معبد بوجع الناس والفوضى والشر المستطير.
لذا قرر فيروس كورونا أن يكون أرأف باللبنانيين من حكامهم وتجارهم وفجارهم. ضميره لم يتحمل مشهد المختنقين لحاجتهم إلى الأوكسيجين على أبواب المستشفيات. فبادر من جهته ومن دون التنسيق مع قاتلي الشعب اللبناني، إلى الانسحاب لأن الكوارث التي تحدثها المنظومة المجرمة والفاسدة تغني عن خدماته في تخفيف عدد السكان من خلال الاستمرار في مسلسل إذلال اللبنانيين وتعميق مأساتهم.
أو بكل بساطة، وجد الفيروس الذي زلزل العالم أنه آخر هموم اللبنانيين وفي أسفل سلم أولوياتهم جراء عملية الإبادة المنظمة التي يتعرض لها من يفترض أنهم ضحاياه، فاحترم نفسه ومقامه وبدأ إنسحابه التكتيكي بعدما غلبته الاستراتيجية المرتكزة على تحالف التجار والفجار والفاسدين المفسدين في الأرض برعاية المحور وأذرعه.