IMLebanon

كورونا فضح النظام الصحي والوفيات الكليّة إلى انخفاض

 

الأهالي يوقّعون رسمياً على مصير أطفالهم

نقول يميناً يقولون شمالاً، نقول ثوراً يقولون إحلبوه، نقول أقفلوا يقولون “ما بيخلونا”، نقول لا تقفلوا يقولون “الحالة بالويل”… هذه حال “أهل البلد” وحال “المسؤولين” في لبنان غير المسؤولين الذين “يولولون” ليل نهار بالآتي “كورونياً” ويتركون الشعب المرعوب لحالِه! فما المنفعة من وجودهم؟ وماذا عن الخطر الداهم و”النص إقفال” والإقفال الدائم إذا تقرر؟ وماذا عن أصوات التهدئة التي تبتسم مرددة: ترووا، وعن المدارس التي تُجبر أولياء الأمر على التوقيع: نحن مسؤولون عن إصابات أطفالنا؟

 

صوتُ رئيس لجنة الصحة العامة النائب عاصم عراجي يُنبئ بالقلق الكبير من أيام سوداء آتية. وهو لا يتذمر من الإعادة أمام الإعلام “بأن أسرّة كورونا في كل المستشفيات تكاد تمتلئ بالكامل والإصابات كثيرة في صفوف الكادر الطبي”. هو يُكرر هذا الكلام يقيناً منه “أن في الإعادة إفادة”. لكن، المصيبة الكبرى، أن الخائف يخاف أكثر وغير المبالي يقهقه بقوة. والعمل؟ كورونا مش مزحة. هناك من نعرفهم ماتوا. الأعداد تزيد والأسرة تقل والخطر يكبر. والمسؤولون لا يرسونَ، كما في كل شيء، على برّ. لكن، حين يتعلق الأمر بالصحة لا يعود الأمر كأي أمر.

الكادر الطبي أصيب في الصميم. والممرضات والممرضون الذين هم الرئة في هذا الزمن يهاجرون. والسؤال، هل هناك ما يُطمئن؟ نقيبة الممرضات والممرضين في لبنان الدكتورة ميرنا ضومط قلقة لِما قد تؤول إليه الحال لكنها تُطمئن إلى وجود “1200 ممرض وممرضة تخرجوا للتوّ وسيخضعون في خلال أيام الى إمتحان الكولوكيوم وهم جاهزون للنزول الى “المعركة” والمواجهة”. لكن، هل هؤلاء مدربون؟ ألا يحتاج كورونا الى بروتوكولات مختلفة وتدريب مختلف؟ تجيب “صحيح أن هؤلاء لا يملكون الخبرة لكنهم يملكون المعلومات ويمكن للمستشفيات أن تستعين بهم في الأقسام العادية في الفترة الأولى، على أن تحوّل من يملكون الخبرات الى أقسام كورونا ليُشكلوا خط الدفاع الأول”.

 

هناك، بحسب ضومط، “9500 ممرض وممرضة في لبنان، وأصيب منذ شباط الماضي نحو 1400 عامل وعاملة في القطاع الصحي، وهناك ممرضة واحدة كانت تعمل في مستشفى الزهراء توفيت بسبب انتقال عدوى كوفيد-19 إليها”.

البلد “قايم قاعد”. الخوف كبير. وكلنا ننظر في عيون بعضنا بعضا خوفاً على بعضنا أو من بعضنا. لكن، هناك من ينشطون في عالم الوبائيات ويحاولون طمأنة الناس بدل إثارة الرعب فيهم. أستاذ الوبائيات الدكتور سليم أديب واحد من هؤلاء. فعلام يرتكز؟ وهل له أن يُطمئننا الى غد نراه قاتماً أسود؟

 

يملك أديب أربعين عاماً من الخبرة في علم الوبائيات وصحة المجتمع. وهو يملك اختصاصاً في هذا المجال بالذات. وسبق وتعامل مع أكثر من وباء في لبنان وخارج لبنان. فلنستفد من معلوماته بدل الاتكال على التلميحات والانطباعات. هو يبتسم لسؤالنا عن مصيرنا المتوقع ويقول “تشير المعلومات الى ان الوباء كسائر الأوبئة ليس جامداً في مكانه بل متغيّر. فهو تغيّر كثيراً منذ شباط الماضي حتى تشرين هذا”. للأسوأ؟ يجيب “ليس بالضرورة، لكن ما حصل هنا ان الهلع الذي نشعر به مرده الفساد المستشري في نظام الصحة في لبنان. فما حصل ان كوفيد-19 أتى ليضع النظام الصحي تحت الضغط ويكشف بوضوح الإشكاليات الهائلة التي نحن فيها. فالقائمون على مسار الوباء لا يملكون لا الخبرة ولا العلم”.

 

“الفيروس حاول في شباط الماضي، بعد ان استوردناه، الاستيطان هنا لكننا تمكنا من مواجهته الى ان فُتح المطار بلا رقابة، في ظل تعامل الحكومة معه مثل “البسة” (الهرة) التي اختبأت كي لا تضطر الى التعامل معه بجدية، وبدأنا في استقبال 7000 مسافر في حين نحن غير قادرين على إجراء سوى ألف فحص PCR فقط لا غير، وصرنا نقول للمسافر انتظر نتيجتك اذا كانت ايجابية خلال ثلاثة ايام وهو اصبح “يسوح” في اليوم الرابع لتصله النتيجة في اليوم السادس بعد ان يكون قد نشر الوباء الإيجابي في جسده بين معارفه. هذا هو الخطأ الأكبر الذي وقع فيه لبنان. وأوصل البلد ليُصبح الوباء فيه مستوطناً بعدما كان مستورداً”.

 

تغيّر الوباء. ومرة جديدة بسبب إهمال وفساد هذه الدولة. وكل هذا، والكلام الى أستاذ الوبائيات “في ظل عدم وجود أحد قادر على شرح ما حصل للعامة”.

 

ماذا حصل؟ فليشرح سليم أديب للعامة ماذا نحن فيه الآن. يقول: “98 في المئة من حالات كورونا هي لأشخاص يحملون الفيروس ولا يحتاجون الى اي عناية طبية خاصة. هؤلاء لا يعانون سوى من رشح عادي. و2 في المئة يحتاجون الى رعاية صحية، أي ما معدله 30 شخصاً، ونحن نملك 15 ألف سرير، لذا من غير المفروض أن نواجه إشكالية بالشكل الذي نواجهه. المشكلة إذاً ليست في كورونا بل في النظام الصحي الإستشفائي الذي هو بالويل، ليس الآن بل من زمان وزمان مع فارق أن كورونا كشفته”.

 

نحتاج الآن أكثر من أي وقت الى وضوح في الصورة. نحتاج أن تخبرنا وزارة الصحة عن عدد مرضى كوفيد-19 وليس عن عدد الإصابات به. لا نحتاج بالتالي الى إخبارنا بعدد الفحوصات التي جرت والتي وصلت منذ شباط الماضي الى مليون و200 ألف فحص، أي أن 40 في المئة من الشعب في لبنان خضعوا الى فحوص كورونا، وإذا اعتبرنا أن كلفة كل فحص هو 150 ألفاً فاضربوا رقم مليون و200 ألف بمئة وخمسين ألفاً. فحوصات كورونا ليست ضرورية بالنسبة الى أستاذ الوبائيات. ومن يشعر برشح أو بوهن فليعزل نفسه تلقائياً”.

 

عدد المتوفين في لبنان 642 شخصاً. والشباب الذين يتوفون قد يكونون يعانون من أمراض لا يشعرون أصلاً بها، وليس بالتالي معناه أن الوباء بات يضرب الشباب، لأن من توفوا تحت سن الخمسين هم أقل من 20 في المئة. وهنا يلفت أديب الى “أن نسبة الوفيات العامة الكلية في لبنان كانت في الأعوام الماضية بين 80 و90 وفاة يومياً أمّا اليوم، في 2020، فلا تتخطى 50 وفاة ووفيات كوفيد-19 ضمنها، لذا لا داعي أبداً (وهذه المرة بالفعل) للهلع. نسبة الوفيات في لبنان انخفضت وهذا خبر سار في زحمة الأخبار الكثيرة القاتمة.

 

وباء كورونا استوطن في لبنان وهو على درب الحل الطبيعي. فماذا في الحل الطبيعي لمسار الأوبئة عموماً وكورونا بالتحديد؟ يجيب أديب “لا وباء لا حلّ بشكل طبيعي له. فكل الأوبئة ستنتهي مع الأيام. والفيروس سيُصبح ماضياً، والى أن يحصل هذا علينا أن نظل نستمر بالوقاية الشخصية” ويستطرد بالقول “المناعة لا نكتسبها فقط جراء انتشار الفيروس و”مناعة القطيع” بل جراء كل ما تعرضت له أجسامنا قبل، بمعنى أن التحصين لا يتسبب به الوباء نفسه فقط بل إبن عمه، الوباء الذي يشبهه، ونحن لا بُدّ أن نكون قد تحصنا من سلالات كورونا الأربع السابقة أيضاً. ونحن لمعلوماتكم نملك الحصانة أكثر من سوانا لأننا نعيش في بيئة مليئة بالفيروسات ومحاطة بالأمراض ومناعتنا بالتالي جاهزة دائماً”. هو خبر سار آخر.

 

أصبحنا نبحث من قلب المشاكل والأزمات عما هو سار. أصبحنا نبتسم حتى من قلب الخوف والقلق.

 

وماذا بعد؟

 

الدكتورة ميرنا ضومط ليست مطمئنة بقدر الدكتور سليم أديب لكنها مثله ترى الإقفال العام صعب جداً ليس لأنه غير ضروري بل لأن قدرة شريحة كبيرة من المواطنين على تحمله شبه مستحيلة وتقول “لمرة أخيرة ندعو العامة الى الإنتباه وأخذ الحيطة والحذر عبر الحماية الشخصية” وتستطرد قائلة “صعب أن نقول للعالم الذين يعيشون تحت وطأة الأزمات النفسية والإقتصادية والإجتماعية أن يجلسوا وحيدين في بيوتهم، لهذا نطالبهم بالإختلاط وفق قاعدة safety bubble بمعنى أن يختلطوا بفئة قليلة جداً، في قلب العائلة الواحدة أو جيران المبنى الواحد، الذين يعرفون بعضهم بعضاً ومتأكدين أنهم لا يختلطون مع جماعات كثيرة. وبهذا يحمون أنفسهم ويتمكنون من “النق سوا” فلا يشعرون بوقع أزمة الإنعزال بشكل كبير”.

 

يقفل البلد؟ لن يقفل البلد؟ بلى سيقفل؟ وكأننا نُمسك بزهرة مارغريت ونقول “يحبني أو لا يحبني؟”. الأصوات ترتفع. المواطنون غاضبون. البلديات بدأت تأخذ قرارات إستثنائية وحدها. رئيس بلدية الغبيري معن خليل اتخذ قراراً بصفته والداً يخاف على اولاده بالإقفال الموقت للمدارس مطالباً بقرار يُجنب تزايد الاصابات والوصول الى الدرك الأسفل والأصعب. المختار محمد حمزة رفع من جهته “الصوت” صارخاً “ولادنا مش رخاص” وقال “حين يكون في الدولة وزراء ظالمون أتخذ أنا المختار، صلة الوصل بين الشعب والدولة، القرار: ما حدا يبعت ولادو على المدارس”. طبيبة الرئة والانعاش سيلين بعقليني، التي استقبلت أول مريض كورونا “لقط” الفيروس من طفله الذي لقطه بدوره من معلمة الدين (زوجة أول متوف بكورونا في لبنان مارون كرم) قررت ألا ترسل اطفالها الى المدرسة ودعت لجان الأهل الى الى ان تحذو حذوها. الناس في لبنان لا يثقون بالدولة ولا بالقائمين على صحتهم ويأخذون قراراتهم بمنأى عن قرار وزراء الداخلية والتربية والصحة.

 

فيروس كورونا استوطن في بلدنا وما عدنا قادرين على طرده بسهولة لكن، لا يمكن القول إنه المسؤول عن الوفيات التي تحصل كلها بل الدولة اللبنانية هي المسؤولة عن وفيات الكثيرين الذين لن يجدوا سريراً. فهي أخفقت في ترتيب البيت الداخلي منذ شباط الماضي قبل أن تُشرّع له الباب قائلة: أهلاً وسهلاً. ومنذ اليوم كل متوفِ، اختنق بسبب عدم وجود سرير، هو في رقبة الدولة.

 

وقبل ان ننهي، ثمة كتاب يوزع على أولياء الطلبة في لبنان تطالبهم بعض المدارس فيه بالتوقيع بأن كل الأخطار المحدقة بأطفالهم وكل الحوادث الناتجة عن اصابة اطفالهم ملقاة على مسؤوليتهم التامة! هو كتاب برسم وزير التربية وكل ولي امر يوقع عليه سيشعر حتماً انه يرسل طفله الى الموت.