على هامش التخبط الرسمي في مواجهة جائحة «كورونا» منذ ظهورها، هناك من يعتقد انّ ما شهده لبنان أخيراً كان متوقعاً. فإلى تداعيات هذه الازمة تعيش البلاد، الى نكبة مرفأ بيروت، جائحات سياسية ونقدية واخلاقية تعمّق المخاطر. وعليه، نبّه مطلعون من مخاطر وجود اي نية لتسييل تداعيات الإغلاق سياسياً، والأخطر، إن وجد من يرغب في الاستثمار في الجائحة، وتجاهل مخاطر بقاء البلاد بلا حكومة. فلماذا وكيف؟
رغم اعتراف كثر من اهل السلطة ومعارضيها بصعوبة إحصاء حجم الجائحات التي غزت لبنان في السنوات الأخيرة، فإنّ هناك من يعتقد انّ من بينها ما هو كوني ومن صنع الطبيعة، اجتاحت العالم بكامله، وهناك أخرى هي من صنع اللبنانيين او نتاج اهمالهم وسياساتهم الفاشلة. فجائحة كورونا قد تكون فُرِضَت على اللبنانيين كما على شعوب العالم أجمع، ورغم ذلك فإنّ هناك من يعترف صراحة انّ لبنان كان قادراً على مواجهتها وتطويقها، لو لم يكن اهله غارقين في بحر الجائحات الأخرى، ولا سيما منها تلك المالية والنقدية التي عُدّت من صنع المسؤولين اللبنانيين. كان ذلك قائماً قبل ان تُضاف اليها نتائج نكبة مرفأ بيروت وتردداتها الخطيرة، ولتعطيها وجهاً ثقيلاً آخر من الأزمة الخانقة التي لا يمكن ان يتحمّلها شعب. وخصوصاً انّه يعيش يومياته منذ 9 سنوات، الى جانب شعب سوري نازح، أُضيف اليه عنوة في غضون اشهر قليلة وبطريقة مفاجئة، وهو ما رفع عدد النازحين واللاجئين الى نسبة تقارب نصف الشعب اللبناني، إن اضيفوا الى الفلسطينيين والعراقيين.
ومن هذه المعادلة بالذات، لا يمكن أي كان تجاهل حجم الأزمة الوبائية ونتائجها، في ظل عجز السلطة السياسية والحكومة عن مواجهة تردداتها لألف سبب وسبب. فالجميع يدرك انّ الأزمة المالية والنقدية تحول دون توفير مقومات الصمود امام كلفة الوباء. فانهيار الليرة وفقدان العملات الصعبة جعلا نسبة كبيرة من العائلات تعيش تحت خط الفقر، بنسبة لم تعرفها اي دولة في العالم. فاللبنانيون الذين فقدوا نحو 83 % من قيمة مداخيلهم ومدخراتهم، لم يعودوا قادرين على توفير ابسط الأدوية التي يحتاجها العلاج في مراحله الاولى، قبل ان يضطر المريض الى الخضوع لعلاج متقدّم فاقت كلفته بضعة عشرات من ملايين الليرات يومياً، ان لم يتوافر له سرير في المستشفى الحكومي أو في الاسرّة النادرة في المستشفيات الخاصة، التي يتردّد بعضها في المشاركة في المواجهة.
على هذه الخلفيات يتطلع المراقبون الى حجم ما خلّفته الجائحة. فطريقة المواجهة التي قادتها الحكومة لم تثمر سوى مزيد من المآسي، وخصوصاً عندما اختلطت الشروط الصحية والاقتصادية والاجتماعية مع الأمنية، عند البحث في ضمان التباعد الاجتماعي ووقف الاختلاط، قبل ان يتفشى المرض ليفرض آلية بلغت حدود الفصل والتباعد بين افراد العائلة الواحدة على اضيق نطاق.
ومردّ ذلك، قالت المصادر، الى اسباب عدة، اولها وجود قرار لدى رئيس حكومة تصريف الاعمال بممارسة مهماته ضمن اضيق اصول تصريف الاعمال والخيارات المتاحة، ويتجنّب الغوص في ملفات يمكن معالجتها بمعزل عن ازمة الكورونا، وهي المتصلة بطريقة ترشيد الدعم للجم ارتفاع الاسعار وتخفيف الضغوط على العائلة اللبنانية. فكل الترتيبات التي كان من الواجب القيام بها من قبل، والتي لم تُتخذ، هي التي ادّت الى الانتشار الواسع ومخاطره على الأمن القومي وصحة اللبنانيين.
والى هذه العوائق التي حالت دون المواجهة، فقد رفعت الخلافات بين اعضاء اللجان الوزارية وحتى تلك الطبية المتخصصة، فتحول البعض منهم وكلاء للمصالح الاقتصادية والاجتماعية، سواء عن صواب او خطأ، وهو ما ادّى الى تفشي الوباء بنسبة عالية نتيجة المخالفات التي ارتُكبت في احتفالات عيدي الميلاد ورأس السنة، وبدأت البلاد تجني نتائجها الخطيرة على مرحلتين ما بين 8 و10 من الشهر الجاري، وما هو منتظر في المرحلة الثانية ما بين 14 و16 منه، فكيف ان أخطأت الحكومة وقرّرت في الساعات المقبلة الفاصلة عن موعد الإغلاق اعطاء مهلة الـ 72 ساعة للتبضع والتموين، بحيث سيكون مشهداً يفوق في خطورته مشهد العيدين، لننتظر بعدها اسبوعين لإحصاء آلاف الاصابات، بالإضافة الى رفع الاسعار نتيجة استغلال التجار المتمادي وجشعهم في استغلال الازمات، قياساً على تجارب سابقة.
على كل حال، وبعيداً من الأبعاد الاقتصادية والوبائية للأزمة، يبدو انّ هناك مخططاً للاستثمار في ترددات كورونا في السياسة، فلا مسعى جدّياً يؤدي الى الإسراع في تشكيل الحكومة، بحجة انّ ازمة كورونا لها الاولوية. وانّ اقفال البلاد يحول دون التعبير عن رفض السياسات المتبعة، ووقف كل حراك شعبي، ما يسمح لهم بالتمادي في ارتكاباتهم المالية والنقدية والمماحكات السياسية والحكومية، في انتظار تحقيق مكاسب آنية قد تطيح الامن المتوافر في حدّه الادنى، ونقل الأزمة النقدية الى مرحلة خطيرة تهدّد الامن القومي، وهي، وإن ابقت المسؤولين في مواقعهم، وإن سهّلت حصولهم على الحصص الحكومية والحقائب الدسمة مالياً وقضائياً وادارياً، فإنّها سترتد عليهم وبالاً في وقت قريب.
وان كان التحذير مما هو مرتقب واجباً، إن بقيت المعالجات للأزمة الحكومية على الطريقة المعتمدة اليوم، فإنّ الاستهتار بمصالح الناس له ثمنه، وإن بقي الحظر مفروضاً على اي حراك شعبي، فإنّ الخوف الجدّي الذي حذّرت منه المراجع الامنية والديبلوماسية والسياسية واضح، فهي استنتجت وحذّرت ايضاً، من انّه لن يعوق شيئاً اي حراك محتمل في وقت قريب، ليطيح من استسلموا لمصالحهم الشخصية والآنية وضحّوا بمصالح الناس وزادوا من اوجاعهم وآلامهم، من اجل البقاء في مواقعهم والحفاظ على مكتسبات باتت مبنية على تضحيات اللبنانيين. وهو امر ستكون له تردداته الاقليمية والدولية هذه المرة، وربما على المستوى الأممي. وعليه يطرح السؤال: هل هناك من يستدرج العالم الى قرارات سبق اتخاذها لمعالجة الاوضاع في دول مارقة وفاشلة؟ وهل هناك من يعتقد إن وقعت اعمدة الهيكل سيكون في منأى عنها وفي اي موقع كان؟
وإن كان بعض الاوساط السياسية والديبلوماسية ما زال يتوقع مزيداً من المناكفات، فإن الأمل بمخارج قريبة شبه مستحيل. فقد بنيت احدى النظريات على اعتبار انّ هناك من اعتقد انّ «نكبة مرفأ» بيروت ستشكّل فرصة لا بدّ من استغلالها لاستعادة السلطة المحاصرة انفاسها، فلا يستغربن احد ان كانت كورونا وتداعياتها مسرحاً يمكن من خلاله استعادة ثقة مفقودة ومجدٍ قد ضاع، وهنا تقع الطامة الكبرى. فليس الفشل في ادارة ملف كورونا استثناء، انما هو القاعدة المتجذرة في إدارة الدولة ومؤسساتها في لبنان.