غداً سيزعَمُ كاتبٌ أنَّه لمَّح قبل أعوامٍ إلى أنَّ وباءً سيدهمُ الكوكب، وسيوزع ضحاياه على القارات والدول. ولا غرابة في الأمر. سمعنا مثلَ هذه الادعاءات بعد انهيار جدار برلين وانتحار الاتحاد السوفياتي. وغداً يطلُّ مُنجّمٌ ليعيدَ تذكيرَنا بما يزعم أنَّه لمَّح إليه في موسم سابق. وقد يعاتبنا مشعوذٌ لأنَّنا لم نأخذ تحذيراته من الأخطار المحدقة بكوكبنا على محمل الجد. ولن يكون مستغرباً أن تطل جوقة باعة الأوهام التي تتحيَّن أي منعطف لتقول إنَّ النهاية أوشكت، وإنَّ الإنسان الحالم المتمرد الجشع ارتكب ما يستحق عقاباً موجعاً ومريراً.
لا غرابة في ذلك فقد دفع كورونا «القرية الكونية» إلى منعطف صعب لم تتوقعه ولم تحسن الاستعداد له. تشبيه ما يجري بحرب عالمية ثالثة ليس دقيقاً. ففي الحرب العالمية كان يمكن العثور على ملاذات آمنة وحلفاء وجهات يمكنك الاتصال بها وتهبُّ لنجدتك. المسألة مختلفة مع هذا الوباء. تواجهه وحيداً وعارياً من أي سلاح. لكن التشبيه يجوز إذا أخذنا في الاعتبار أن الفيروس سيغتال مؤسسات كثيرة علاوة على الأفراد. سيزعزع استقرار حكومات وأسر ومدن حين يرمي بملايين الأشخاص في أقفاص البطالة.
أكثر من أي حرب أخرى، فتحت «حرب كورونا» دفاتر العزلة والوحشة والموت. وفي عزلة الانتظار الثقيل تتناسل الأسئلة كالفيروسات. أسئلة عن المصير الإنساني والحياة والموت لا تتسع أيام الرجل اللاهث وراء عمله لطرحها. أسئلة عن الموت والخلاص وما بعد هذه الإقامة الأرضية والإنصاف والظلم وإصدار الأحكام. وكما شعر المواطن العادي في الحروب الكبرى أنَّه كانَ لقمة سائغة لآلات كبرى متوحشة، يشعر القتيل في «حرب كورونا» بألم أشد لأنَّ خيار القتل وقع عليه.
يتابع الإنسان نتائج جولات إعصار «كورونا» في أماكن أخرى فتتضاعف أسئلته، ويتضاعف شعوره بوقوفه مستفرداً أمام مصيره. لا يستطيع العثور على مظلة ولا يستطيع الاحتماءَ بجدار. لهذا يهزُّ الإعصار كلَّ شيء بلا استثناء: المعادلات والقناعات وأساليب العيش التي تروّض القلق وتُعقلِنُ الخسارة.
يراودني شعور أنَّ أشياءَ كثيرة انكسرت في وقت واحد، وأنَّ أبراجاً من الزجاج أصيبت بشروخ لا يمكن إصلاحها، لهذا أسأل نفسي بإلحاح: هل بالغنا في تقدير قيمة التقدم الذي حققته هذه المجتمعات في العقود الأخيرة؟ هل كان هذا التقدم كاذباً أو ناقصاً أو مفتقراً على الأقل إلى البعد الإنساني الكافي؟ هل نست الحكومات والأحزاب أنَّ الغرض الأول من التقدم هو الإنسان، وغرقت في سباق محموم حول المصالح والأرباح والاحتكار والتفوق؟ وهل بدَّدت الدول ثرواتها وقدراتها في حروب السيطرة والتحكم؟ وهل أضاعت المنظمات الدولية أيامَها وميزانياتها تحت عناوين عامة وبراقة بعيداً عن الحاجات الحقيقية؟
يراودني شعور أنَّ العالم الذي ننتمي إليه تعرض لخراب هائل في حفنة أسابيع كشفت قصوره وضلاله وعجزه. أنا شخصياً تغيَّرت قراءتي لأحجام وأدوار كبار اللاعبين على المسرح. كنت أعتقد أن سيد البيت الأبيض هو رجل بالغ القوة يملك حين يقرر رداً صارماً أو حاسماً على أي تحدٍ يحدق بالعالم أو تواجهه بلاده. أميركا بتقدمها ومصانعها وجامعاتها وحرياتها قوة تقدم في العالم على رغم أخطائها وانحيازاتها. بعد «كورونا» لم يعد لدي الشعور نفسه. لم أعد أنظر إلى دونالد ترمب بوصفه كبيرَ الملاكمين في «القرية الكونية». لا يمكن إنكارَ أنَّه لا يزال الأقوى، لكنَّني رأيته مضطرباً حائراً حين قرَّر فيروس مجهول مهاجمة الأراضي الأميركية.
يمكنني قول الشيء نفسه عن فلاديمير بوتين. نجح من دفعوه إلى المسرح في رسم صورة استثنائية له، برع شخصياً في رعايتها وتعميقها. إنَّه جيمس بوند الوافد من مطبخ الـ«كي جي بي» والمتربع سعيداً على ديمقراطية قيد الرقابة وترسانة تفوق سرعة الصوت. وفرح كثيرون بولادة هذا اللاعب القوي. اعتبروا قوته شرطاً ضرورياً لعقلنة سلوك الملاكم الأميركي الذي يتفرد بأخطاء قياسية حين يتفرد بالملعب. لكنَّ هذا القوي الذي يعاقب الجواسيس على أراضي الآخرين، ويتلاعب بالانتخابات داخل الحدود وخارجها ظهر بلا أسلحة فتاكة حين قرر «الجنرال كورونا» زيارة بلاد لينين في سياق جولته القاتلة على الدول والقارات.
قدرة الزعيم الصيني على اتخاذ قرارات صارمة يصعب اتخاذ مثلها في الأنظمة الديمقراطية لا تكفي لإثارة الطمأنينة. سياسة ورثة ماو هي في النهاية جزء من هذا القاموس الدولي الذي تهدّد أزمة «كورونا» بإحالته على التقاعد. هذا من دون أنْ ننسى التوقف عند أوروبا التي استحقت بمشاهدها المأساوية لقب القارة العجوز فعلاً. إذا استثنينا عبارات المجاملة التي تشبه تلك العبارات المعلبة التي تطلق في الجنازات فإنَّ العالم لم يشعر برد أوروبي قوي وموحد على الفظاعات التي ارتكبها القاتل المتسلسل، خصوصاً في إسبانيا وإيطاليا. بدت أوروبا في هذه الأزمة الوحشية والمصيرية قارة مسنة تفتقر إلى العمود الفقري والصوت القادر على الاستقطاب والاستنفار على رغم محاولات المستشارة الألمانية، والرجل المقيم في مكتب شارل ديغول. بدت الدول الأوروبية ضعيفة وهشَّة ومؤسساتها ركيكة، وأعطت الانطباع أنَّها ليست عاجزة فقط عن التصدي للقاتل، بل أيضاً عن توفير نعوش سريعة ومقابر لضحاياه. لم تعبر الروح الأوروبية عن حضورها أو قوتها أو غلبتها. ظهر الاتحاد الأوروبي في صورة نادٍ لم ينجح في إقناع الأعضاء بخلع معاطف الأنانية القومية والوطنية ووضع ثقلهم وإمكاناتهم في تصرف مغامرة المصير المشترك. بدت كل دولة متروكة لمصيرها القاتم، ومن دون أن تستطيعَ الرهان على دعم يأتي من وراء الحدود. أيقظت الأزمة تلك الحدود القديمة التي اعتقد كثير من الأوروبيين أنَّها مجرد ذكريات من الماضي، بعدما تداخلت على أرض القارة المصالح والمصائر. كشفت الأزمة شيخوخة قواميس وأساليب وقناعات وعقاقير.
تغيَّرت صورة العالم لدى الفرد الخائف من القاتل الواقف على أبواب المدن وأهداب القرى. تهشَّمت حقولٌ كاملة من الزجاج. الموت يقرع هنا والموت يقرع هناك. الأنهار مغشوشة ومسمومة والجبال تتفسخ وتتآكل. ليت المنعطف يتحول صدمة غير مسبوقة. طعنة هائلة توقظ. يستحق الإنسان عالماً أقل وحشة ووحشية. ومن هذا المنطلق وحده نريد أنْ نصدق أنَّ عالم ما بعد «كورونا» لن يشبه عالم ما قبله.