الوباء العالمي يطلق نقاشاً قانونياً حول آثاره.. واجتهاد فرنسي يعتبره أكثر من جائحة
يتوسّع الاهتمام العالمي بفيروس كورونا يوماً بعد آخر، بعد أن فرضَ الوباء تغييرات هائلة وجذرية على كثير من المفاهيم والعلاقات والنظريات والأولويات والمسلّمات، وما عاد مقتصراً على الجانب الصحي، ما يفرضُ التعامل معه بكثير من الجدية والمسؤولية.
وبعد أن هدّد هذا الوباء الصحة العالمية، وتسبّبَ باختلال القطاع الصحي في أكثر الدول تقدماً فضلاً عن الأقل تقدماً، تسبّب أيضاً بتوقف الدراسة، اللقاءات العامة، حركة التجارة من خلال إغلاق المطارات والموانئ بسبب إغلاق المجالات الجوية والحدود البرية وحركة الملاحة البحرية. وهو قبل ذلك أثّر بشكل هائل على مفاهيم كانت تعتبر راسخة، كالقوة، والتعاون الدولي، ودور الدولة، وكل ذلك فرضّ التعامل مع آثاره المتحققة والمحتملة بذات الجدية والموضوعية، ومنها على سبيل المثال الآثار القانونية والاجتماعية والتعاقدية؟
«كورونا» متفوقاً
لطالما تسبّبت الأوبئة والأمراض والجوائح على مرّ التاريخ بخسائر بشرية واقتصادية كبيرة، ورتّبت العديد من الإشكالات ذات الأبعاد القانونية والاقتصادية والاجتماعية في ارتباطها بالأمن الصحي العالمي وبالعوائق والإكراهات الناجمة عنها في مجال تبادل السلع والخدمات وحركة الاقتصاد العالمي، فالانفلونزا الاسبانية، مثلاً، أوقعت ما يزيد عن 25 مليون نسمة بين عامي 1918 – 1919، وانفلونزا هونغ كونغ حصدت أرواح مليوني انسان، ثم توالت جوائح السارس SARS (2002)، انفلونزا الطيور (2003)، فيروس H1N1 (2009)، ايبولا (2014)، ثم كورونا الذي ظهر أواخر العام 2019 في مدينة ووهان الصينية، واعتمدت منظمة الصحة العالمية تسمية (COVID-19) في 11 شباط 2020.
وينتمي كلّ من فيروس «كورونا» وفيروس سارس SARS وفيروس ميرس MERS إلى عائلة فيروسات «كورونا»، لكن نسخته الأخيرة COVID-19، يختلف عنها في بعض خصائص جيناته والآثار المترتبة عليه، إذ تكمن خطورته في سهولة انتقاله بشكل يضاعف مخاطر الاصابة بالتهابات حادة في الجهاز التنفسي.
ومع كل كارثة وباء كان يتجدد النقاش الدولي حول الآثار المترتبة عليها لناحية المعاملات والعقود التجارية والالتزامات المالية والضريبية، فـ«كورونا»، مثلاً، أثّر على حركة التجارة العالمية، وأجبر عدداً هائلاً من المؤسسات والشركات العالمية في مختلف المجالات على الإخلال بالتزاماتها التعاقدية تجاه زبائنها، فهل يعتبر الوباء في هذه الحالة «قوة قاهرة»، تحلل الأطراف المتعاقدة من التزاماتها تجاه زبائنها وعدم أداء غرامات التأخير أو التعويض عن التأخير في التنفيذ أو عن استحالته.
فرنسا نموذجاً
ما سبق دفع عددا من الدول خلال الأزمة القائمة إلى المبادرة لطلب الاجتهاد القانوني، وأعلن وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير في 28 شباط الماضي بعد اجتماع مع الشركاء الاقتصاديين أن فيروس «كورونا» يعدّ «قوة قاهرة» بالنسبة لقطاع المقاولات، مؤكدا أن الحكومة الفرنسية لن تطبق غرامات التأخير في التنفيذ على الشركات المرتبطة بعقود مع الدولة، وطرح إمكانية اللجوء إلى الخدمات الجزئية وإعطاء مهل لأداء الأعباء الاجتماعية والضريبية بالنسبة إلى المقاولات التي يثبت تضررها من آثار هذا الوباء «بهدف حماية الاستقرار بشكل مسؤول وعدم السقوط في مغبة القلق والهلع الاقتصادي».
كذلك دخل القضاء الفرنسي على خط الأزمة، وفي اجتهاد لافت، وضعت محكمة الإستئناف في مدينة كولمار الفرنسية، جائحة «كورونا» في مصاف «القوة القاهرة»، وذلك في حيثيات قرار اصدرته في 12 آذار الجاري.
وفي حيثيات الحكم، اعتبر اجتهاد المحكمة أن الموقوف «م. فيكتور ج» من الجنسية السنغالية، وهو من طالبي اللجوء، وقضى في الحبس 28 يومًا وكانت رفضت مراجعته من قبل قاضي الحريات في ستراسبورغ، كما أنه رفض العودة إلى المكان الذي وصل إليه بداية وطالب باللجوء في إسبانيا. وقد حالت الظروف «الإستثنائية» دون سوقه إلى المحكمة، فوضعت المحكمة ذلك ضمن إطار القوة القاهرة وأكثر من جائحة، محددة مواصفات هذه القوة بأنها «لا يمكن تجاوزها، لأنها خارجة عن الإرادة، غير متوقعة، ولا يمكن دفعها». ذلك أن الظروف تحدّ من القدرة على التعامل والإنجاز خلال المهل الممنوحة وقادت إلى غياب فيكتور وتمديد الحبس الإحتياطي.
في الخلاصة، أكدت المحكمة الإستئنافية على قرار قاضي الحريات (الإبتدائي) بإعتبار تمديد التوقيف ورفض اللجوء من قبيل القوة القاهرة، كما أكد على أن القرار غير قابل للمعارضة والمراجعة إلا عن طريق التمييز.
وكما في فرنسا، كذلك في الصين أكدت هيئة تنمية التجارة الدولية الصينية أنها ستمنح شهادات «القوة القاهرة» للشركات الدولية التي تكافح من أجل التأقلم مع تأثيرات عدوى فيروس «كورونا»، خاصة الشركات التي ستستطيع تقديم مستندات موثقة لإثبات التأخير أو تعطل وسائل المواصلات وعقود التصدير وإعلانات الجمارك وغيرها.
ما هي القوة القاهرة؟
هذه المبادرات والإجراءات أطلقت بوادر جدل ونقاش قانوني – اقتصادي حول موضوع «القوة القاهرة» الذي يعدّ من المواضيع المعقدة التي تحتمل كثيرا من التأويلات واختلاف وجهات النظر حول مدى توافر شروطها من عدمه، خاصة عندما نكون أمام وباء صحي عالمي تختلف آثاره بين السلبية والإيجابية باختلاف المواقع والمؤسسات، وباختلاف الظروف المحيطة بالتعاقدات المتنازع بشأنها، إذ إن بعض القطاعات على خلاف الباقي عرفت نموا كبيرا بسبب انتشار هذا الفيروس، خاصة تلك المتعلقة بالتجارة الإلكترونية والأدوات الطبية والتعقيمية والسلع الحياتية.
القوة القاهرة في القانون هي إحدى بنود العقود، تعفي كلا الطرفين المتعاقدين من التزاماتهما عند حدوث ظروف قاهرة خارجة عن إرادتهما، مثل الحرب أو إضراب العمال، أو كوارث طبيعية كـزلزال أو فيضان، وتمنع طرفا من التعاقد أو الطرفين معا من تنفيذ التزاماته طبقا للعقد. ولكن بند القوة القاهرة لا ينطبق في حالة الإهمال على ارتكاب فعل ضار.
يؤكد فقهاء القانون، إن فكرة «العقد شريعة المتعاقدين» تنبني على ثلاثة أسس: أولها قانوني قوامه مبدأ سلطان الإرادة، وثانيها أخلاقي يتمثل في احترام العهود والمواثيق، وثالثها ذو طابع اجتماعي واقتصادي يترجمه وجوب استقرار المعاملات. وهي فكرة توجب احترام مضمون العقد سواء من طرف المتعاقدين أو من جانب القضاء.
وبحسب هؤلاء، فإن الأوبئة الصحية كواقعة مادية صرفة تكون لها آثار سلبية واضحة يمكن رصد ملامحها على العلاقات القانونية بوجه عام والعلاقات التعاقدية على وجه الخصوص حيث تتصدع هذه الروابط نتيجة ركود يصيب بعض القطاعات الاستثمارية مما يجعل من المستحيل أو على الأقل من الصعب تنفيذ بعض الالتزامات أو يؤخر تنفيذها. وهو وضع قد يمس المؤسسات الصناعية والتجارية الخاصة والعامة، الصغيرة والكبيرة والمتوسطة على السواء، بالنظر للارتباط الكبير والوثيق بين أنشطتها حيث يكفي أن تصاب إحداها بأزمة اقتصادية لكي تهدد الأخريات بدورها.
ومن هنا، تبنى الفكر القانوني والاجتهاد القضائي عبر العالم آليتين تعتبران من الوسائل الحمائية للمدينين الذين يصبحون مهددين بالإفلاس أو على الأقل أصبحت ذمتهم المالية مصابة بتصدع خطير. هاتان الآليتان هما نظريتا القوة القاهرة والظروف الطارئة التي ترميان إلى علاج الحالات التي يصير فيها الالتزام التعاقدي مستحيل التنفيذ (القوة القاهرة) أو صعب التنفيذ (الظروف الطارئة). وهما في الأصل يعدان تطبيقا لمبدأ أخلاقي عام مفاده أنه لا تكليف بمستحيل أو لا تكليف بما يتجاوز الطاقة العادية للإنسان.
ومن الناحية الموضوعية – كما أكد على ذلك الفقه القانوني – فهما ترجمة للعلاقة الوطيدة بين القانون والاقتصاد من جهة أولى ومبادئ الأخلاق من جهة أخرى.
فلكي يُسأل المدين عقديا يجب أن يكون قد أخل بالتزامه العقدي، ومن صور ذلك الإخلال عدم التنفيذ في الوقت المتفق عليه وهو ما يتم وصفه بالتماطل؛ غير أن هذه المسؤولية العقدية قد ترتفع عن صاحبها إذا ما تمسك بأحد الأسباب الخارجة عن إرادته والتي تمثل في جوهرها كل الظروف والوقائع المادية أو القانونية التي يمكن للمدعى عليه في دعوى المسؤولية المدنية أن يستند إليها لكي يثبت أن الضرر لا ينسب إليه ولا دخل له فيه وإنما هو نتيجة حتمية لذلك السبب. وتمثل القوة القاهرة أهم صور هذا السبب الخارج عن الإرادة.
هل يعد «كورونا» أحد تطبيقات القوة القاهرة؟
سبقت الإشارة إلى أن «القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه، وله صفة العموم، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا». أما شروطها التشريعية الرئيسية فهي ثلاثة: أولا: عدم التوقع، ثانيا: استحالة الدفع، وثالثا: عدم صدور خطأ من المدين المتمسك بالقوة القاهرة.
وكل شرط من هذه الشروط اختلفت بشأن تطبيقه النظريات الفقهية والتشريعات المقارنة، لكن من الناحية المبدئية يمكن أن نستخلص منها أن انتشار وباء صحي كواقعة مادية قد تكون قوة قاهرة كلما كان لها تأثير مباشر على عدم تنفيذ الالتزام التعاقدي من طرف المدين إذا ما توفر لها شرطان أساسيان وهما: عدم التوقع، واستحالة الدفع، أما الشرط الثالث المتمثل في خطأ المدين، وهنا تعتبر حالة فيروس «كورونا» عنصرا غير مطلوب منطقيا؛ بل إن الظروف المحيطة بانتشار الفيروس أو تلك المتولدة عنه بصفة مباشرة أو غير مباشرة قد تكون بدورها عبارة عن قوة قاهرة ومن ذلك مثلا وقف استيراد بعض المواد الأولية أو رفع أسعار بعضها الآخر.
فالقوة القاهرة لم تعد محصورة على وقائع محددة دون غيرها فكل واقعة تحققت بشأنها الشروط وجعلت التنفيذ مستحيلا إلا وعدت حالة من حالات القوة القاهرة. ويبقى بطبيعة الحال المدين هو الملزم بإثبات توافر هذه الشروط.
ماذا عن لبنان؟
الأكيد أن عددا كبيراً من القطاعات التجارية والانتاجية والصناعية والخدماتية والتعليمية والجامعية وتعطل حركة النقل تأثّر بسبب الظروف الناشئة في لبنان عن فيروس «كورونا»، وذلك يرتب أضراراً مادية وعينية توثر في الالتزامات والخدمات، وتكاد أخبار تداعيات الفيروس الحياتية والاجتماعية الكارثية تطغى الجانب الصحي والاستشفائي منه، وذلك يتطلب نقاشاً محلياً، قانونياً وإدارياً، حول نظريتي القوة القاهرة والظروف الطارئة ومدى إمكانية استفادة القطاعات المتأثرة سلباً من ذلك للبحث في التخفيف من الالتزامات أو تعديلها أو إلغائها.
إننا، أمام كارثة صحية كونية، لكنها بذات الوقت إشكال قانوني اقتصادي اجتماعي يفترض الوقوف على بعض مداخله الأساسية بتبصّر صوناً لما تبقى من مقومات لدى المجتمع في بلد يعاني الإفلاس وشبح المجاعة ومؤشرات الفوضى.