الإحتواء مهدّد وكورونا ليس مزحة
تنشط الدولة في كلّ الإتجاهات، في اجتماعات تكاد لا تنتهي، لاستقبال الدفعة الثالثة من اللبنانيين العائدين اليوم من الخارج، راسمة بالخط الأحمر العريض خطوطاً تحت خانة: الأخطاء السابقة… فماذا فيها؟ وماذا ينتظرنا مع قدوم هؤلاء في مرحلة تفلت فيها كثيرون من مقومات الحجر الصحي؟ وهل أقسم، من يفترض أن يقسموا، اليمين على تفادي الأخطاء السابقة؟
جمعية الرسالة للإسعاف الصحي- مكتب الصحة المركزي في حركة أمل إستعدّت جيداً الى هذه الجولة. أربعة فرق تعمل 24 ساعة على 24 بين مطار رفيق الحريري الدولي وثمانية فنادق في بيروت. ممتاز. “حزب الله” أيضاً استعدّ. والبارحة التقى ممثلو الحزب والحركة في وزارة الصحة العامة لوضع النقاط على حروف هذه الجولة. أيضاً ممتاز. لكن ماذا عن الدولة في هذه الجولة؟
في كل مرة ينتهي عاصم عراجي، رئيس اللجنة الصحية النيابية، من اجتماع عام لأعضاء لجنة الصحة النيابية يعود ويغوص، بينه وبين نفسه، في تقييم ما جرى وما يفترض أن يجري. فالنائب المسؤول مدرك فداحة ما نحن فيه، فالناس لا يلتزمون بموجبات الحجر والمغتربون العائدون لا يلتزمون بواجباتهم، والدولة لم تتشدد. وبالتالي المسألة ثلاثية الأبعاد: دولة، مجتمع وأفراد. ومشكلتنا أن الدولة، بأمها وأبيها وبكل من فيها، بين سندان كورونا ومطرقة الجوع و… وماذا بعد؟ ماذا علينا أن ننتظر مع مجيء أكثر من 11 ألف لبناني من الخارج في الأيام العشرة المقبلة؟ يجيب عراجي: رأيي كان منذ البداية أن الوافدين هم من المحافظات اللبنانية التسع وأحرى بالدولة وضعهم في أماكن حجر تنتشر على مساحة لبنان لأنهم لا يلتزمون جدياً حيث يمكثون، ولأننا نعلم أن من تأتي نتائجهم سلبية اليوم يشكلون أيضاً خطورة، وجميعنا بات يدرك أن نسبة الخطأ هي 30 في المئة. ونتيجة “نيغاتيف” ليست معناها أن الوافد ليس مصاباً.
رئيس لجنة الصحة النيابية يُفكر ويتمنى ويأمل ويشرح ويزيد لكن على ما يبدو هناك من يتخذ القرار ويمضي، فالجميع طالب بألا يأتي كلّ هذا العدد من الوافدين في خلال أيام وتوسيع الرقعة الى أسابيع لكن القرار اتخذ بحجة أن يحتفل العائدون بعيد الفطر في لبنان. ثمة من يُحذّر ويتحدث وثمة من يتخذ القرار.
يشرف مسؤول مكتب الصحة المركزي في حركة أمل الدكتور زكريا توبي، وهو جراح كلى ومسالك بولية، على كل التفاصيل ليس باسم “الحركة” بل باسم الجمعيات الأهلية كي “لا يُشكل الأمر حساسية”. يبدو الطبيب واضحاً وقادراً على وضع الإصبع على الجرح وتعويم كل توجسات هذه الجولة من عودة الوافدين وتشخيص أخطاء المرحلتين الماضيتين. يقول: المشكلة ليست في وزارة الصحة ولا في المستشفيات والممرضين بل في القوى الأمنية المولجة متابعة الموضوع والبلديات والمجتمع المدني. كان يجب ان يتسلم المهمة الجيش اللبناني لا قوى الامن والبلديات. مؤسسة الجيش أكثر حزماً وهي الوحيدة التي لديها رهبة على المواطن. نتمنى ان تعطى دوراً اكبر في خلال العشرة ايام الآتية لأننا سنستقبل 11 ألف مواطن في عشرة أيام أي أكثر من مجموع الجولتين الماضيتين. هناك تسع طائرات يومياً والأمر “ليس لعبة”. ويستطرد الطبيب: الوافدون لم يلتزموا بواجباتهم. ثمة عنجهية هائلة لدى هؤلاء ويعتبرون أنهم آتون ليصطافوا لا ليحجروا أنفسهم 14 يوماً حفاظاً على السلامة العامة. العقلية صعبة جداً ونحن شهود على توتر الأجواء في خلال الساعات الأولى التي يمضيها الوافد في الفندق، الى حين صدور نتيجة فحوصاته. لا يتحمل هؤلاء المكوث في الحجر. وهناك من يريد أن تصله نرجيلته الى الغرفة ويريد أن ينزل الى حوض السباحة في الفندق. هؤلاء يعتقدون أنفسهم في سياحة لا في حجر. لذا سيكون صعباً جداً جعلهم، من تلقاء أنفسهم، يبقون في الحجر. يحتاج الأمر الى قرار حاسم حازم والى قبضة الجيش اللبناني.
نسمعهم يتحدثون عما يجب وكأن الأمر سيحصل بعد حين لا عن أمر بدأ للتو! تُرى هل مشكلتنا أن لا فنادق متاحة قادرة أن تشكل حجراً تحت إشراف الدولة لهؤلاء؟
نقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر يجزم أن لا أحد من الوافدين أمضى في الفندق أكثر من الساعات الأربع والعشرين المحددة، كقرار منه بالحجر الإلزامي ويقول: هؤلاء إما “الله ناعم عليهم” ويملكون قصوراً يتاح لهم ربما الحجر الذاتي فيها أو “مكحكحين” لا قدرة لديهم على دفع كلفة المكوث في الفندق. في كل حال لا تتعدى كلفة الليلة الواحدة في أي فندق يختارونه الـ 150 ألف ليرة. وهناك أقل. واختارت هذه الفنادق وزارة الصحة ووزارة السياحة، على أن تكون قريبة من مطار رفيق الحريري الدولي ومستشفى رفيق الحريري.
يوجد في لبنان، لمن يهمه الأمر، 550 فندقاً بينها 150 في بيروت. ووحده فندق فينيسيا يضم 462 مفتاحاً أي بقدر عدد الغرف الفندقية في كل منطقة المتن. نتناول الحديث عن مصيبة صحية فنصبح نتكلم عن مصيبة سياحية. نحن في بلد مثقل بالأزمات. وما دمنا فتحنا سيرة الفنادق، هل لنا أن نعرف ما إذا كانت هناك فنادق قد أقفلت؟ يجيب النقيب: هناك إقفالات غير معلنة بينها حبتور ومتروبوليتان ومونرو ورمادا. كل الفنادق مدركة أن السياحة انتهت في 2020 وربما في 2021 لذا قررت الإغلاق ريثما يأتي “فرج من الله”.
هل يلتزمون؟
نعود الى الطبيب توبي لسؤاله عن “قراءته الصحية” لعودة الوافدين كونه ممسكاً “باسم حركة أمل” بالملف؟ يتمنى الطبيب لو تتشارك كل الأحزاب، التي تُشكل موزاييك الوطن، في الإمساك بالملف ويقول: نحن لا نعمل تحت صفة حركة أمل بل الجمعية الصحية للرعاية الأولية. وقد شكلنا أربعة فرق، يضم كل فريق طبيباً مسؤولاً وثلاثة أشخاص مهمتهم التعقيم وثلاثة ممرضين وعمالاً إداريين ولوجستيين. وهناك ثمانية فنادق على الأقل متفق معها لاستقبال الوافدين منها فنادق لانكستر وغولدن توليب في الحمراء وباريزيان وبالم بيتش وغيرها. ومشكلتنا أننا نتفاجأ أحياناً بطائرة يفترض أنها آتية بمئة وافد أنها تضم 180 راكباً. نتفاجأ بأناس يأتون وقوفاً لا كراسي لهم.
كلامٌ خطير هذا، سمعنا عنه لكن أن يصدر عن طبيب موجود على الأرض فهذا دليل الى خروقات فادحة. فمن المسؤول؟ يجيب الطبيب توبي: كثيرون يريدون الإستفادة. ويستطرد: هناك “قواص” في الداخل حول أسباب أن يكون عدد الطائرات الآتية من الخليج تزيد عن أربعين وتلك الآتية من أفريقيا تنقص عن 11. وهناك مشكلة واجهها كثيرون هو أن الحجز أصبح يتم عبر شركة طيران الشرق الأوسط التي تبقي خطوطهم مفتوحة على “كول سنتر” أربعين دقيقة وأكثر… شكاوى شكاوى والسؤال، ماذا عن صحتنا ما دامت صحتنا ستكون من صحة الوافدين؟
كل من يُسأل عن المشهدية المتوقعة، لناحية تفشي كوفيد-19 أم لا، يلتقي مع الآخرين على عدم وضوح الصورة. الدكتور زكريا توبي يقول: يجب الحسم في الموضوع بدل الإتكال فقط على وعي المواطن. جربنا الوعي فشهدنا كثيراً من الإستهتار. الدكتور عاصم عراجي يطالب بعقوبات مالية على من يستهتر بسلامة الآخرين، إسوة بما يحصل في دول الخليج وفرنسا وبريطانيا. ويقول: فليدفع من يخرج بلا كمامة ومن يفترض أن يكون في الحجر ولا يلتزم. لا شيء يثني الناس عن عدم الإلتزام بالواجبات سوى تغريمهم ثمن ذلك. ويستطرد: إقفال البلد أربعة أيام أو عشرة أو حتى لشهر كامل لن يفيد إذا لم يتحلّ الناس بالوعي والمسؤولية. في كل حال نحن ما زلنا في مرحلة الإحتواء فلنبق، رجاء، فيها.
هناك من لا يلتزم وهناك من يلتزم مئة في المئة. فها هو الشاب شربل صقر الذي وصل في آخر الرحلات الآتية، في الجولة الثانية، من باريس في الحجر. هو لم يلتق حتى بوالديه اللذين وضعا له بعض الطعام والمال وكلبه “سبوت” في المركبة قرب البيت. أوصله التاكسي إليها. صعد فيها وصعد الى بيت الجبل. هو يشاهد في هذه الأيام برامج على “نتفليكس” ويلعب عبر الإنترنت مع أصدقائه ويقرأ الكتب. هو يدرس الهندسة في باريس وعاد مع إثنين من رفاقه. فهل كان الطريق سالكاً آمناً؟ هل لاحظ وجود خلل أو أخطاء ما؟ يجيب: ثمة رجل مسن راح يصرخ حين أجلسوا فتاة الى جانبه قائلاً: سأنزل من الطائرة إذا جلست على المقعد المحاذي لي. وماذا حصل؟ يجيب شربل: وافقنا أن تجلس الى جانبنا أنا وأصدقائي. تسعيرة بطاقة السفر، على الدرجة السياحية، من باريس الى لبنان 1200 يورو لكن هناك حسم للطلاب حيث يدفعون 580 يورو.
وماذا بعد؟
ندخل اليوم في مرحلة جدّ دقيقة فإما نبقى في مرحلة الإحتواء أو ننتقل الى مرحلة التفشي، مع التشديد أن الموجة الثانية من كوفيد-19 لم تصل بعد الى لبنان، فنحن لا نزال في المرحلة الأولى. المطلوب الوعي. فهل نراهن عليه؟ كثير من الوافدين يكذبون. كثير من الوافدين يهربون من “عين الدولة”. وكثير من الوافدين يظنون أنهم أتوا الى الإصطياف. واللبنانيون المقيمون، في طرابلس وعكار وصبرا وشاتيلا وفي أماكن أخرى في كل لبنان، يظنون أنهم محميون من الفيروس. علام نراهن؟ على الدولة؟