في مواجهة “كورونا”… الفئات الأضعف منسيّة ومتروكة
هم الفريسة الأسهل للفيروس القاتل واكثر الفئات معاناة من تداعياته، معزولون في مراكزهم بعيداً عن أهلهم وروتينهم اليومي،غارقون في متاعبهم وآلامهم. لبنان، دولةً ومجتمعاً، أشاح بوجهه عنهم وانشغل بجائحته، وفي وقت الشدّة لم يجدوا يداً مسؤولة تمتدّ نحوهم. مسنّون، معوّقون، مدمنون وذوو أمراض عقلية تُركوا لمصيرهم يواجهون الأخطار في مراكز رعايتهم بما تيسر، ويصرخ المسؤولون عنهم صرخات استغاثة علّ من يسمع ومن يعين. حالهم موجع في بلد يئنّ ومعاناة مراكزهم لا تقل عنهم وجعاً. فهل من يتطلع إليهم؟
نحار من أين نبدأ وعن أية فئة نستقصي، فكلهم مستضعفون في مركب واحد مهدد بالغرق. رقم صادم يوجّه مسيرتنا: 12 مسناً توفّوا خلال 48 ساعة في إحدى دور المسنين في المتن الشمالي. من هنا نبدأ لنطرح السؤال حول أرقام الوفيات. الإجابات مبهمة والأرقام لم تخرج الى العلن وكثر من مسؤولي دور الرعاية يفضلون التكتم على الأمر رغم الإلحاح.
الوفيات بين التكتم والشفافية
في “بيت رفقا” في جربتا البترون يعيش 65 مسناً في بيت أعد خصيصاً ليكون المرتع الآمن لشيخوختهم. بشفافية مطلقة يعلمنا السيد إيلي أبو ياغي المدير العام للبيت، أنه على الرغم من كل إجراءات الوقاية تسلل المرض إلى الدار وحصلت ثلاث حالات وفاة بين المسنين، ما استدعى إعلان حالة طوارئ سريعة وتمّ حصر الحالات المصابة في جناح واحد، خصّص له فريق تمريضي مستقل مع حجر المسنين داخل غرفهم ومعالجة من هم بحاجة للعلاج داخل الدار، تجنباً لتعريضهم للمزيد من المخاطر في المستشفيات. أثمرت الخطة الموضوعة ولم تنتقل الإصابات خارج الجناح المذكور، لكننا لم ننم على حرير، يؤكد أبو ياغي، بل ضاعفنا الجهود وإجراءات الوقاية ليبقى الوضع تحت السيطرة في انتظار وصول اللقاح المناسب رغم ان أحداً لم يتواصل معنا بهذا الشأن.
مسنون تتراوح أعمارهم ما بين 64 و 98، قليل منهم بصحته الكاملة ومن تبقى منهم متعب يعاني من مشاكل صحية عديدة ترافق التقدم في السن. يؤمن لهم البيت الرعاية الصحية والتمريضية بشكل متواصل وكل الخدمات الصحية الرديفة التي يحتاجونها، من علاج طبيعي او بالموسيقى او علاجات نفسية حركية ونشاطات ترفيهية تبقيهم على اتصال مع الحياة كما عرفوها. لكن روتينهم انقلب رأساً على عقب مع حلول “كورونا”، توقفت كل النشاطات وتوقف استقبال الأهل والزوار للحد من الاختلاط واتخذت أقصى تدابير الوقاية.
هذا العمل لحصر انتشار الإصابات كلّف جهداً ووقتاً ومالاً. لا يريد السيد ابو ياغي اتهام الوزارات المختصة او التصويب عليها، فهو يعرف ما تعانيه ويقدّر ما تقوم به لكنه يتكلم من قلب مجروح ويقول: “يحكى كثيراً عن معاناة المستشفيات اليوم لكن دور المسنين لم تأخذ الاهتمام المطلوب ضمن خطة الطوارئ الصحية التي اعدتها الحكومة. لم يتمّ الالتفات إليها جدياً وما تلقته من مساعدات يبقى خجولاً لا يقارن بالكلفة الباهظة التي نتكبدها لشراء أدوات السلامة من كمامات وقفازات وبذلات ومعقمات، والتي يتم استخدامها بكميات هائلة مع المسنين وكذلك ماكينات أوكسجين وتخصيص طواقم تمريضية منفصلة لكل جناح، فالحاجة أكثر بكثير مما يقدّم ومع ارتفاع الأسعار بات الحصول على الأدوية ومستلزمات الوقاية مهدداً. لا شك أننا بحاجة الى دعم أكبر لتقطيع هذه المرحلة فنحن اليوم نحارب من اللحم الحي والتبرعات التي اعتدنا عليها تراجعت، والمردود قليل ومساعدات الوزارات المختصة تكاد لا تذكر”.
الحجر لم يكن سهلاً على المسنين خاصة وانهم حرموا من رؤية عائلاتهم ومن نشاطاتهم، شعروا بالخوف والضجر والقلق لكن من هم في وعيهم الكامل تفهموا الإجراءات، وكذلك تفهم الأهل الامر وتعاونوا بشكل كبير لكن الدعم الأقوى كان ويبقى من فريق العمل داخل الدار،”من هؤلاء الأبطال”، كما يقول ابو ياغي، “الذين لم يترددوا في خدمة مصابي “الكورونا” رغم المخاطر وحضنوا المسنين أكثر من اي وقت مضى”.
المعوّقون اختبروا كل مصائب الحياة
بعد المسنين كان لا بد لنا من الالتفات الى المعوقين، وكأن مصائب هؤلاء لا تكفيهم لتضاف “كورونا” الى صعوباتهم اليومية. في مستشفى بيت شباب حيث “المعهد اللبناني للمعاقين” الوضع لا يختلف كثيراً عما هو عليه في دار المسنين لا بل قد يكون أصعب، وفق ما يشرح لنا المديرالعام للمستشفى الأب لويس سماحة. هنا الضغوط أكبر فالمستشفى يضم، إضافة الى المعهد الذي يعيش فيه قرابة 60 معوّقاً بينهم 11 لا يزالون هنا منذ الحرب الأهلية، مركز تأهيل يستقبل أشخاصاً تعرضوا لإصابات بالغة يمضون فيه فترة تأهيلهم قبل عودتهم الى البيوت، ومركزاً لغسل الكلى يضم 40 مريضاً، الى جانب المستشفى الذي يستقبل كل الحالات المرضية. هو مزيج إذاً من المخاطر والمصاعب والتحديات.
لم يستطع المستشفى افتتاح قسم خاص بـ”الكورونا”، يؤكد الأب سماحة، فتجهيزاته لا تسمح بهذا ولا إمكانياته المادية او البشرية، والأهم أنه لا يمكن تعريض الموجودين فيه لمخاطر هم في غنى عنها، فمصيبتهم تكفيهم ودَور المستشفى حمايتهم بكل الطرق. لكن على الرغم من كل إجراءات الحماية ثمة اشخاص يصابون سواء بين المعوقين او بين مرضى غسيل الكلى وهنا المشكلة الكبرى، يقول الأب سماحة، إذ يصعب علينا إيجاد أمكنة لهم في المستشفيات على الرغم من صعوبة حالتهم ودقّتها، وقد اضطررنا الى خلق غرفة طوارئ خارج المستشفى مزودة بالأوكسجين لتأمين العنايات الأولية للمصابين وحتى لمن يصل إلينا من خارج المستشفى. نعمل بكل طاقتنا لإبعاد الإصابات عن أصحاب الإعاقة ونسعى لحصرهم في طابق واحد وقد أوجدنا غرفة للعزل ضمن الغرف الموجودة، والأصعب أن بعض الأهل يتركوننا لنتدبر أمرنا معهم لوحدنا. في حديثنا مع الأب سماحة نتفاجأ بفئة لم نسمع الكثير بشأنها وهم مرضى غسيل الكلى. هؤلاء وضعهم أدق وأشد خطورة ويجب بذل الجهود لتأمين حماية قصوى لهم، ومتى أصيبوا يصبح الأمر أشد خطورة للتوفيق بين علاج “الكورونا” وغسل الكلى الذي لا يمكن إيقافه. وقد حدثت عندنا حالات، يقول الأب، اضطررنا الى نقلها الى المستشفى وتم حجر عدد من المرضى.
وكأن المصائب لا تأتي فرادى ليضاف الحمل المادي المرهق الى الحمل الصحي. ويسأل الأب سماحة: كيف يمكننا الاستمرار ونحن لم ننل إلا 15% من مستحقاتنا لعام 2020 وكل عقود المصالحة القديمة مع الوزارات لم ننل منها شيئاً بعد. لا تزال الدولة تحتسب لنا الدولار 1500 ليرة حتى بعد ان ارتفع إنفاقنا على أدوية غسل الكلى من 18 مليوناً الى 88 مليوناً، فيما الكثير من الشركات لم تعد تقبل إلا بالحصول على مستحقاتها نقداً. موظفونا لم ينالوا رواتبهم منذ خمسة اشهر، يقولها الأب سماحة بخنقة، لكنهم ما زالوا مستمرين “كتّر خيرهم”. ماذا نفعل بمرضانا، بمعوّقينا وبعضهم هنا منذ 40 عاماً وأكثر، ماذا نفعل بمرضى غسيل الكلى الذين ان انقطع الدواء عنهم ليوم واحد يصبحون معرضين للموت، كيف نؤمن وسائل الحماية لإبعاد شبح “كورونا” عن مرضانا؟ الجواب ليس قطعاً عند المسؤولين بل يكمن في قوة معوقينا الذين يعطوننا المعنويات المطلوبة بروحهم الرائعة التي لم تثنها الصعاب.
فئات مهمشة في عز الجائحة
في “قرية الإنسان” التي تحتضن المدمنين وتشرف على علاجهم وإعادة تأهيلهم 43 نزيلاً أصابتهم “الكورونا” في الصميم وإن لم تكن إصابات مباشرة. اثنان منهم فقدا أهلاً لهما، وفق ما يروي لنا الأب مجدي علاوي. أحدهم توفيت والدته منذ اشهر وتوفي والده بعدها. لم يبلغنا الأهل بالخبر خوفاً من أن يهرب الشاب من المركز، آخر توفي والده ولم يره رغم توسلاتنا بأن يزوره في غرفة العناية الفائقة، ولا سيما وأنه لم يكلّمه منذ ثلاثة أشهر لدواعي الحجر. أحداث كهذه تشكل خضة قوية عند هؤلاء الأشخاص لكننا استطعنا تحويلها الى عامل إيجابي، فهم وعدوا آباءهم بالعلاج ومن هناك حيث هم، الآباء فخورون وسعيدون بتلقي أبنائهم العلاج وهذا ما منحهم الزخم للاستمرار.
جائحة كورونا، يقول الأب علاوي، كانت صعبة جداً علينا من كل النواحي، فزيارات الأهل توقفت كلياً والعلاجات صارت تتم عن بعد وهي لا تغني عن العلاجات المباشرة. وزارة الشؤون منعتنا من استقبال اي مدمن جديد ومركز الإفطام الذي كان في مستشفى الحريري توقّف، فاضطررنا الى نقل المدمنين الى مركز لنا في غوسطا ليتابعوا عملية الإفطام الصعبة، وهو يضم 39 شخصاً في وضع دقيق يحتاجون الى رعاية مكثفة ووقاية قصوى.
لقد أنشأنا مركزاً خاصاً للحجر، يقول الأب علاوي، للمدمنين الجدد وللناس الذين نجدهم على الطرقات بلا مأوى، للفقراء الذين لا يستطيعون القيام باختبار الـ PCR وحتى لمن لا يملكون أية أوراق ثبوتية، يمضون فيه 21 يوماً قبل أن نوزعهم على المؤسسات المختصة. لم نلق اي دعم لنتمكن من العناية بهؤلاء المهمشين الذين نسيهم المجتمع ولم ننل اي مساعدة مالية لنتمكن من تأمين الفحوصات والأدوية والعلاجات لهؤلاء، حتى أننا اشترينا ماكينات أوكسجين بالـ”فريش موني” لنتمكن من معالجة من يصاب في مراكزنا. فقد اضطررنا مرة لنقل مدمن اصيب بـ”الكورونا” الى المستشفى وتوجب علينا ” تقبيل مئة يد” قبل أن نتمكن من إدخاله. وتبقى الفئة الرابعة من المنسيين وهم المصابون بالأمراض العقلية والعصبية الذين يخضعون للعلاج في بيوتهم او في مستشفى دير الصليب. لأجلهم أطلقت رئيسة المستشفى جانيت أبي عبدالله “نداءً عاجلاً” إلى “جميع أصحاب الأيادي البيضاء للمساعدة في أقرب وقت ممكن في معركة مواجهة الوباء، بعدما لامس المستشفى انعداماً كلياً في آلات الأوكسجين وآلات الأوكسيمتر، إضافة إلى انقطاع الملابس الوقائيّة الخاصة بـ”كورونا”، وبعد فقدان المستشفى للأدوية بمختلف أنواعها وبات يعاني من عجز كبير لتأمين البدائل”. وقد أفادنا أحد اطباء الأمراض العصبية أن حالات القلق الشديد والكآبة وحالات الهذيان والرهاب ازدادت بشكل كبيرعند هؤلاء المرضى، نتيجة ما يعيشونه من ضغوطات في بيوتهم او مؤسسات الرعاية اثناء جائحة كورونا. فهل من يسمع ويستجيب؟