بدأ ملف تصحيح الأجور الذي استفاق من سباته في وقت غير متوقّع، يأخذ منحى التصعيد بين طرفي الانتاج. واذا كان اجتماع لجنة المؤشر في 9 آب الجاري هو أول الغيث، فإن التوقعات بالنسبة الى النتائج تبدو باهتة ولا تستحق كل هذا الضجيج من قبل العمال وأرباب العمل في آن.
بصرف النظر عن أحقيتها وخلفياتها وحظوظها في الوصول الى مبتغاها، بدت الدعوة التي أطلقها الاتحاد العمالي العام من أجل تصحيح الأجور، كأنها خارج المكان والزمان.
فاجأت المبادرة العمال أنفسهم قبل أن تفاجئ أرباب العمل الذين صودف أنهم كانوا يكرّمون رئيس الاتحاد العمالي العام لتبوئه موقع امين عام الاتحاد الدولي للعمال العرب، وبشرّوا بأن حقبة الخلافات بين العمال والهيئات الاقتصادية انتهت، واننا نعيش في زمن الشراكة والاتحاد بين طرفي الانتاج.
هل تعني اثارة موضوع تصحيح الاجور اليوم انتهاء الهدنة والشراكة بين طرفي الانتاج والعودة الى حقبة الصراعات والتحديات والمزايدات؟ والأهم، هل تحتاج الاجور الى تصحيح، وهل في مقدور الاقتصاد تحمّل مبدأ التصحيح في هذه الظروف؟
قد تكون ردة فعل القيادات العمالية الرافضة لمقولة ان الوقت اليوم غير مناسب لطرح ملف تصحيح الاجور في محلها، استنادا الى المواقف السلبية الدائمة التي كان يتخذها أرباب العمل حيال فكرة زيادة الاجور.
وهذا ما قالته القيادات العمالية، وهو ان الوقت يكون دائماً غير مناسب لأصحاب العمل. لكن هذه الثابتة في تعاطي أحد طرفي الانتاج مع ملف الاجور، لا تنفي ثابتة أخرى، وهي ان أي زيادة للاجور تفقد قيمتها، وتتحوّل كارثة على العمال، اذا وقعت في غير محلها.
وهناك مجموعة من الاسباب الواقعية التي تؤكد ان الدعوة الى تحريك ملف الاجور اليوم، يمكن تأجيلها لبعض الوقت، وهذه أهمها:
اولا – ان التراجع العام في الدورة الاقتصادية وصل الى مستويات مُقلقة، ويمسّ كل القطاعات تقريباً، بما فيها القطاعات التي كانت حتى الامس القريب، لا تزال مُحصّنة أكثر من سواها. ومنذ 2011، تتراجع كل المؤشرات الاقتصادية في البلد. ويشكل حجم النمو واحداً من الأمثلة الواضحة في هذا المجال. بين 2008 و2011 وصل معدل النمو السنوي في الاقتصاد الوطني الى 9 في المئة.
في العام 2015 وصل النمو الى واحد في المئة. هناك مؤشر آخر لا يُخطئ، يرتبط بمداخيل الدولة. اذ انخفضت الايرادات حوالي 12 في المئة في العام 2015 مقارنة مع نتائج 2014. وهذا يعكس الركود المتنامي مع مرور الوقت.
ثانيا – ان نسب البطالة الى ارتفاع، وقد كشفت وزارة العمل أخيرا عن تعاملها مع كمٍ هائل من الطلبات التي تصلها من مؤسسات راغبة في فصل قسم من عمالها، او حتى الاقفال التام وصرف العمال جماعياً.
هذا الوضع يرتبط بعاملين، اولهما الركود في كل القطاعات، والذي يحتّم على المؤسسات محاولة خفض كلفة التشغيل والانتاج، والعامل الثاني يتعلق بوجود النازح السوري الذي يأخذ مكان العامل اللبناني بشروط أفضل بالنسبة الى صاحب العمل، سواء لجهة الأجر المتدني، او لجهة التقديمات التي ترافق الاجور، (صحية، تنقلات، تعويضات…).
ثالثا – ان مستويات تضخّم الأسعار في البلد لا تستدعي إطلاق جرس الانذار، لأن ما نشهده منذ ثلاث سنوات، هو شبه ثبات في أسعار السلع الاستهلاكية. ومع احتساب تراجع أسعار المحروقات في الأسواق اللبنانية بنحو 80 في المئة، وتراجع أسعار العقارات، وبعض القطاعات الخدماتية الأخرى، فان النتيجة التي نصل اليها هي ان القدرة الشرائية للأجر لم تتغيّر منذ ثلاث سنوات حتى اليوم.
هذه المعطيات لا تمنع ان مبدأ تصحيح الاجور سنوياً، والذي تمّ التوافق عليه مع أرباب العمل عندما تمت زيادة الـ200 الف ليرة على الحد الأدنى للأجور، هو مبدأ محق وينبغي ان يتم الالتزام به بشكل دقيق. لكن اهمال التطبيق طوال السنوات الثلاث الأخيرة شكّل خطأ تتحمّل القيادات العمالية جزء كبيرا منه. لكن تصحيح الخطأ أمر مُتاح، ولا ضرورة للتعاطي بتشنّج مع هذا الملف، اذ ان الاقتصاد في وضعه الراهن، لا يحتمل التشنجات والتحديات، التي قد تزيد في احتمالات الانهيار.
أخيراً، هناك من يسأل عن مبدأ تصحيح الاجور في الاتجاهين، بمعنى ان الاسعار سجلت تراجعا في العام 2015 حسب الاحصاء المركزي، فهل يعني ذلك ان المطلوب خفض الاجور بالنسبة ذاتها لانخفاض الاسعار، احتراماً لمبدأ التصحيح، ام أن التصحيح ينطبق فقط على الزيادة، ولا يشمل التخفيض!