في زمن العولمة، الاستعارة مشروعة من عالم الأعمال والعسكر والطب والتربية. «بنك المعلومات» (Data Bank) يساعد أرباب العمل في اتخاذ القرار المناسب. و«بنك الأهداف» لا غنى عنه للقائد العسكري على أرض المعركة. و«بنك الدم» يستعين به الطبيب الجرّاح لإنقاذ المريض من الهلاك. و «بنك الأسئلة» وسيلة معتمدة في إعداد الامتحانات الرسمية، وإن لم تكن الأفضل.
للبنان مساهمة جديدة في هذا المضمار: بنك الفساد وهدر المال، الفاعل باتحاد مكوناته بوجه المحاسبة نظراً للخدمات التي يقدمها على حساب الدولة ومؤسساتها والمواطن وماله وحقوقه. ففي أسابيع قليلة، كي لا نعود إلى سنوات مضت حافلة بملفات فساد دسمة، فضائح بالجملة «طلعة ريحتها» على رغم الحراك الشعبي المتواصل منذ شهور.
رأس مال البنك الموصوف مصدره النفايات، حجر الزاوية في قيامه وعمله منذ تسعينيات القرن الماضي، تضاف إليه أخيراً شبكة الإنترنت غير الشرعي في عرض ثانٍ، بعد نجاح سجَّله العرض الأول على تلال الباروك. جمال الطبيعة وقمم الجبال العالية لا بد من توظيفها لدعم أصول البنك وتنويع إيراداته. وإلى هاتين الخدمتين، تضاف خدمة ثالثة في مجال الصحة العامة، فيتأمن القمح المسرطن لتعزيز مناعة المستهلك ضد المواد الغذائية المنتهية الصلاحية وضد السموم والجراثيم التي تنقلها شاحنات محمّلة بالقمح صباحاً والنفايات مساءً، بلا تمييز بين حقوق المواطن والجرثومة، التزاماً بحقوق الإنسان والحيوان.
وللبنك أيضاً نشاط لافت في اختلاس منظَّم للمال الخاص والعام، من أهل البيت أنفسهم، وفي عقر دار جهاز أمني مهمته تنفيذ القوانين وحماية الناس من المافيات، ومنها تلك التي تؤمن المخدرات لطلاب المدارس والجامعات، والكبتاغون لطالبيه من الداخل والخارج، بعد سعي حثيث لتحويله من مخدِّر محظور الى دواء لتخفيف الأوجاع. أما الدعارة فتخطت حدود العرض والطلب لتصل إلى سوق نخاسة لتجارة العبيد. تبقى الإشارة إلى خدمة مميزة قدمها البنك عينه في السجون، حيث هُدرت الأموال على كاميرات مراقبة لا تعمل وغرف اعتقال بلا أبواب تسهيلاً لتواصل «المقيمين» بحرية مع العالم الخارجي بأحدث ما ابتكرته شركات الاتصالات العالمية. أما الفواتير والتواقيع المزورة في الإدارات العامة فلم تعد من الجرائم التي يُحسب لها حساب.
هذا غيض من فيض الفلتان برعاية بنك الفساد الذي يلتزم الشراكة، فلا يفاضل بين خدمة وأخرى ولا يميّز بين مواطن وسائح أو لاجئ، فكل شيء مباح، عملاً بمقولة الحاجة تبرّر الوسيلة. تمديد شبكات إنترنت غير شرعية ونشر بيوت دعارة في الأحياء السكنية وسرقة أموال المتقاعدين من رؤسائهم في الوظيفة وترويج المخدرات في المدارس والجامعات وفي المطاعم والملاهي، ارتكابات قد تمرّ مرور الكرام والمتورطون فيها بالمئات، ولا يتم ملاحقة إلا من ليس له حماية سياسية أو أمنية.
سوبرماركت فساد، أم حالة متقدمة لدولة متهالكة فقدت هيبتها وصدقية مسؤوليها، وفي كلا الحالين انهيار أخلاقي فاضح، فالمزوِّر والسارق والمخالف للقانون، شأنه شأن سائر الناس، يقرأ تقارير هيئات الرقابة التي، وإن وَضعت الإصبع على الجرح، تبقى بلا جدوى. هيئات الرقابة الرسمية تعمل، إلا أنها فعلياً معطلة. ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي يصدران التقارير ويفنّدان المخالفات، ولا أحد يكترث أو يرتدع. والقضاء قائم وفاعل، إلا أن بعضه غير مستقل عن أهل الحلّ والربط من النافذين في مواقع السلطة.
تُهدر الأموال «عالمفضوح»، ولا تدّب غيرة البعض على الخزينة والمال العام إلا عندما يكون الموضوع سلسلة الرتب والرواتب، فيسود الكلام عن زيادة الضرائب ويغيب عن كيفية وقف الهدر. في زمن الوصاية كان ثمة «قوة قاهرة» (force majeure)، حامية أو يتمّ الاحتماء بها، لا فرق، لكن ماذا نقول اليوم، بعد 25 سنة على انتهاء الحرب وعشر سنوات على إنهاء الوصاية؟ الشغور الرئاسي لا يحول دون وضع حدّ لمروّجي المخدرات ومحترفي التزوير. ولماذا لا يحول الشغور عينه دون أن تقوم الأجهزة الأمنية والعسكرية بمهامها، وهي استطاعت أن تتصدى لشبكات الإرهاب باحتراف وفعالية وبإمكانات محدودة.
في دولة يصبح فيها إقرار الموازنة من الكماليات والنهب والهدر من «حواضر البيت»، تكون الوقاحة قد بلغت مستويات تهدد النظام العام. الاستنكار بات معيباً والإدانة مضيعة للوقت. الشعب يريد استعادة حقوقه عبر دولة القانون بوجه قلّة من الفاجرين الفاسدين، ولا بدّ أن يستجيب القدر.