Site icon IMLebanon

الفساد في طبعته الجديدة

 

الانتخابات… أصبحت وراءنا… ودخلنا مرحلة جديدة، وربما كان الأصح أن نذكر بأننا دخلنا مراحل جديدة.

مرت علينا قبل أيام، مرحلة التكليف، فكانت إجراءً توافقيا سهلا أعاد سدّة رئاسة الوزارة إلى الشيخ سعد، وها هو الآن وقد غطس منذ بداية هذا الأسبوع في عملية التأليف التي تنتظرها ولادة قيصرية لما يحيط بها من مطاحنة ومطاحشة على المواقع والوزارات والمصادمات بين الكتل حول أحجامها العددية ومطالباتها بوزارات سيادية وصراعاتها حول النائب المحظوظ الذي ستولى إليه نيابة رئاسة مجلس الوزراء، من دون أن نغفل التطمينات التي أطلقها دولة الرئيس المكلّف حول سلاسة وسرعة التكليف.

الانتخابات أصبحت وراءنا، وكذلك المواجهات الحافلة بالنقد الجارح، والشتائم المتبادلة والفضائح القولية التي أطلقها مرشحون بقصد الإيذاء المادي والمعنوي بمرشحين آخرين، وعلى أساسها، أفلح كثيرون في صدم كثيرين، ونجح من نجح، وسقط من سقط. كل ذلك قد أصبح وراءنا، ولو كنا في بلد تسوده المعايير الطبيعية، لكانت تلك الشرشحات المدوية والمتبادلة مطروحة في عهدة القضاء وعقوبات العدالة المربضة في هذا البلد الذي يبصق فيه المتهم بوجه غريمه المتهم الآخر، فيبادر إلى الرد بأن الدنيا عمتشتي.

كل ذلك أصبح وراءنا الآن، ونكاد أن نقول أننا عدنا إلى مثل حالنا الذي كان، نشكو من كل شيء، من أحوال الزبالة التي ما زالت تغمرنا بخيراتها، وبأمراضها، وأحوال المياه والكهرباء والخدمات العامة وبشكل خاص نقول ويقول معنا الجميع، ستبقى شكوانا قائمة من تلك الحالة التي تأبى أن تفارقنا منذ سنوات بعيدة: حالة الفساد وهي حالة سنتوقف عندها وسنلقي باتجاهها ما أمكننا من الأضواء الكاشفة والفاضحة، بعد أن باتت عورة لبنان الأساسية وفضيحة الفضائح التي تكاد أن تمنع عنا غيثا نجح الرئيس الحريري في تأمينه من خلال مؤتمر «سيدر» الذي رعته جملة من الدول الطائلة والقادرة وفي طليعتها فرنسا.

نتساءل أولا: كانت لدينا في الحكومة السابقة وزارة ترعى شؤون مكافحة الفساد، فإذا بها بالنتيجة «الفريزر» الذي وضع وحفظ فيه الفساد كلّه، ولا من شاف ولا من دري، وبقيت صيحات الناس واحتجاجاتهم، محصورة ومكبوسة في قمقم محكم الانغلاق، مع اعتقاد راسخ لديهم، بأن إزالة الفساد والفاسدين تستدعي معجزة في زمن لم يعد يعترف بوجود المعجزات.

وأمام المطالب والشروط الصارمة التي وضعتها الدول المشاركة في مؤتمر «سيدر»، برزت كلمة الفساد كما لم يبرز أي مأخذ آخر، قيل لنا، خذوا حوالى أحد عشر مليار دولار وسيكون صرفها على المشاريع المخصصة لها من قبل مسؤوليكم، تحت رعاية المانحين وإشرافهم الدقيق، وجنبونا الوقوع في أي شرك من أشراك الفساد المتعمقة بجذورها الضاربة في كل زمان ومكان لديكم.

وها نحن الآن نجد أن حزب الله وهو في صلب المشاغل والمشاكل التي تواجهه إقليميا ودوليا يتجاوز حصره لنفسه بالملفات الأمنية، كما يتجاوز تركه الشأن الخدماتي لحليفه اللصيق حركة أمل، الأمر الذي سبّب له إحراجا متناهيا لدى جمهوره إبان المرحلة الانتخابية الأخيرة، وها هو الآن يمد طاقاته النيابية المستحدثة والوزارية المقبلة، إلى مواقع الخدمات العامة والخاصة.

ما ذكرناه يؤشر على أن للحزب مصلحة مُلِحّة في مواجهة هذا الموضوع الحساس في هذه المرحلة العصيبة التي تواجهها المنطقة، والتي تتجاوز الشأن الداخلي لتصل إلى تلك الاتهامات المتجددة والمتفاقمة التي تطاول الحزب بدءا من رأس الهرم متمثلا بسماحة رئيسه السيد حسن نصرالله ووصولا إلى قادته ومساعديه الماليين والسياسيين والعسكريين، وهي اتهامات تبدأ بالإرهاب وصولا إلى حروب الحزب في المنطقة وفي الخارج، ووسائل تمويلها والأساليب المختلفة المتبعة في هذا التمويل، خاصة وأن بعض هذه التهم يضعه ويضع نتاجها المادي في خانات الفساد، مكلّلا بتهمة الإرهاب، والحزب يتحسب دون شك لمردّ هذه التهم عليه، تماما كما يتحسب لها بقية اللبنانيين بعدما مزجت إسرائيل ما بين أية افعال متوقعة من الحزب وبين الدولة اللبنانية وبناها الفوقية والتحتية، من دون أن ننسى مجمل الشعب اللبناني الذي قد يكون نصيبه من كل ذلك أن يتلقى الضربات القاصمة دون أن تُترك له الفرصة بأن يقول: آخ.

أما ونحن جميعا أمام جملة من المراحل الجديدة التي تتطلب كثيرا من التحسب والحكمة والرغبة الصادقة في المعالجة التي تضعنا جميعا في خانة وجوب تجنيب لبنان كل آثار الاحتقان واللهب الذي يطغى على المنطقة.

وأما وأن المراحل السابقة، اذا ما تناولناها من منظار الفساد، فهي تهمة عامة تطال معظم المسؤولين والأحزاب والفئات والجهات النافذة في هذا البلد الذي يكاد ما تبقى من خيراته وإمكاناته أن يستمر متغلغلا في جيوب مكشوفة ومعروفة، وربما بمبادرة كمبادرة السيد حسن، وبما سبقها من دعوات مماثلة للرئيس عون وكائنا ما كانت خلفياتها الميدانية والدوافع إليها تضعنا في حال تحققها أمام مسيرة الإنقاذ من حيتان المال التي تمكنت من كل زوايا بلدنا وخباياه.

وأما وأن وضعية الفساد المستشرية والممسكة بخناق لبنان واللبنانيين قد اصبحت مطروحة من أكثر من جهة وفئة محلية ودولية، فإننا نأمل أن تكون امتداداتها الجدية طائلة وفاعلة وأن يكون شعارها بعد الآن: عفا الله عما مضى مع التمسك باعتبار، الفساد شراً مطلقاً، لا بد من اجتثاثه من أعمق جذوره الآثمة، وأن يكون العقاب الجدّي قادما إلى مواقع الخلل لدينا من خلال دولة تسعى جهدها لأن تكون طائلة وقادرة، وإلا فإن الوجود اللبناني بأسره سيصبح في أقصى المواقع حرجا وخطورة.