لقد قيل كل شيء في لبنان تقريباً، فلِمَ الكلام مرة تلو مرة؟ لن يتعلّم أحد شيئاً جديداً. كل ما هو معلن معروف ومتداول إلى حدود الركاكة والسخف. كل ما هو في خانة الأسرار مفضوح على الملأ، ولا أحد يحرِّك ساكناً. لا جدوى من الكلام أبداً، وعبث البحث عن الأفعال. عقم سياسي وقضائي وأخلاقي وثقافي. كثير من الجعجعة ولا أثر لطحين.
لائحة المخازي وفيرة العناوين والأسماء. خلو الرئاسة، قيل فيها ثم قيل فيها وغداً يُقال فيها، بلا جدوى. كلمات عن ظهر قلب معروفة. لا جديد يُضاف. لم يأذن الجنرال عون بعد بتغيير اللازمة.. «الحكومة المحكومة»، مأزومة منذ ولادتها، وموتها ممنوع أو غير ممكن. المجلس معطّل ومعطوب بانتظار لا أحد. يُضاف إلى ذلك، القضاء السائب، الكهرباء المخطوفة بالجرم المشهود والمدعوم، الديون المتراكمة وفوائد طبقة السلطة منها، «أنفاق أوجيرو» وسيولة المال والكلام، العقارات المصادرة جنوباً وبقاعاً وشمالاً وشواطئ، سد جنة المتهم بيئياً، دولة «سوكلين»، ثنائية «أمن الدولة»، الجامعات «الرخيصة» المرخّص لها ذات ليل تربوي حديد، «مجلس الإنماء والإعمار» وأخطبوطه المذهل، الوزارات والمؤسسات، وسوى ذلك من الملفات، وأعدادها بالمئات، كلها، أُشبعت كلاماً، أُضيف إليها كلام، ولا شيء غير الكلام، ولا جدوى من الكلام أبداً.
متى يزور الضجر اللبنانيين؟ متى يعتادون على السأم؟ كيف لا ينسحبون من حلقات السماع؟ لا يمكن إضافة قول واحد لم يُقَل من قبل، مراراً وتكراراً، وبالأساليب والأشكال كلها. القضاء اللبناني، وسائل الاتصال والإعلام، مكتظة بالأقوال. فلمَ الكلام مع عقم الأفعال؟
لا جديدَ أبداً. قوى أمر الواقع هي هي. زعامات السلطة هي هي. لم تتبدّل ولم تتغيّر ولن. الوراثة السياسية عقيدة لبنانية راسخة. حروبهم الكلامية هي هي. لوائح الاتهام هي نفسها وباللكنة ذاتها وبالعبارات إياها. ما يقوله «حزب الحريري» في «حزب الله» لم يتغيّر، لا من بعيد ولا من قريب. ما يرد على لسان «حزب الله» لم يتغير كذلك.
الجنرال عون هو هو. متربّص لرئاسة الجمهورية. ما يقوله وما يصمت عنه وعليه، سيَّان. معروف هو من الألف إلى الياء. الرئاسة أم المعارك. ما عداها، من اختصاص الوريث الذي لا يقصر في ترداد معزوفة «اللاجئين السوريين» وضرورة «مكافحتهم» كفاحاً مستميتاً، حتى هذا ليس جديداً. العنصرية الطائفية والمذهبية هي من إبداع العبقرية اللبنانية الفذة. عرفها اللبنانيون في حروب اقتتالهم على مدى خمسة عشر عاماً. انقلابات جنبلاط المفاجئة لم تعد تفاجئ أحداً. يفطر عند «حزب الله» ويستمّر عند الحريري أو بري. صارت الانقلابية حالة لبنانية شائعة. الحريري ينقلب على جعجع وجعجع ينقلب على الحريري. جنبلاط مثال يُحتذى، ولكنه لم يعد يثير الدهشة. أفعال تشبه الأقوال، لا تغيِّر في الواقع مثقال ذرَّة. الرئيس بري يقلّد بيدبا، ولكن «الحكمة» لا تخرج من الأكمام. طاولة الحوار أسفرت عن حفلات كلام بلا طائل، وقوله «إننا ننتحر»، مجرد مجاز.
أما عن الفساد فحدّث ولا حرج. لبنان ليس فاسداً كفاية، بل إنه فائض السوء والفساد. هذا ليس سراً مكتوماً. البلد يعوم على الفساد، والفاسدون معروفون بأسمائهم «الحسنى» ولا أحد يتجرّأ على التسمية. أليس من المفترض أن يكفّ اللبنانيون عن التشدّق بالفساد والفاسدين والمُفسدين؟ النظام السياسي اللبناني، بطبيعته، رحم ينتج الفساد، بحيث تصير المعادلة اللبنانية الصحيحة هي التالية: الفساد المنظم هو الأساس في لبنان، والفساد دعامة من دعائم السلطة، حيث لا سلطة فيه من دون احترام قواعد الفساد والإفساد، وإن القضاء «غفور رحيم».
لبنان، ليس بحاجة إلى جوليان أسانج، صاحب مغامرة «ويكيليكس» الجريئة، التي كشفت بالوثائق، الأفعال والجرائم التي ترتكبها دول بحق دول أخرى وشعوب. «ويكيليكس» تركت آثاراً كبيرة في أنظمة سياسية. محاكمات جريئة حصلت اعتماداً على الوثائق التي لا شك فيها. تغيّرت حكومات واستقال مسؤولون من الأجهزة المخابراتية والأمنية. «ويكيليكس» أثرت الفكر البحثي وأضافت إلى الإعلام تقليد الصدقية التامة للتحقيقات الاستقصائية، أعطت الجامعات فرصة إنشاء 3500 بحث أكاديمي، إضافة على تكوين مادة أرشيفية للباحثين في السياسة وللعاملين في الحقوق وسلك القضاء. لقد كشفت «ويكيليكس» المستور مؤخراً عن الحرب الليبية، ونشرت 32000 وثيقة حول التزام أميركا وفرنسا وبريطانيا بتدمير النظام والحكومة الليبية.
لبنان ليس بحاجة إلى «ويكيليكس». اللبنانيون يتناولون السياسيين كمتهمين دائماً. قد يكون الاتهام ناقصاً، ولكن لا دخان من دون نار. تسهر القوى السياسية على عدم تسريب الوثائق. لكن الوقائع تدل على النهب المنظم، على «من أين لك هذا؟»، على الإثراء المفاجئ والمفضوح، على الصفقات، على ما يقوله السياسيون ضد السياسيين، وما يقوله موظفون ضد موظفين، وما يقوله قضاة ضد قضاة، وعلى ما يقوله مرتكبون ضد مرتكبين… والأهم، على الفساد غير المستتر والمعلن في كل مشروع، حيث لا شرعية لأي مشروع إلا بعد الاتفاق على الصفقة. ولا شرعية تعلو شرعية «النهب المشترك»، وليس العيش المشترك.
ليس لدى اللبنانيين آليات عملية للخروج من القول إلى الفعل. كل ما يُقال غير مجدٍ. الجمعيات الثقافية والداعية إلى الحوكمة العادلة وتلقين المجتمع المدني مبادئ عامة، لا تقدّم ولا تؤخّر. بل هي برقية شاهد زور.
اللبنانيون يعرفون كل شيء تقريباً من لبنان، ويعرفون أكثر، أن الكتابة هي أن تبيع جملاً ولغة. و «الكلام لا ينصت إليه أحد، مهما بالغتَ برفع الصوت، فإن الأشياء الخاطئة ستبقى، وسنمضي من دون أن يصحّح أحد أمراً» (برتولت بريشت). وبرغم كل هذا الجدار الكلامي، لا بد من البحث عن فرصة للتغيير. إنما كيف؟ إنما متى؟ إنما أين؟ إنما مَن؟ أسئلة صعبة ومزمنة.