«يستوجب عدد الضباط المتورطين في ملفات الفساد استحداث جناح خاص بالعسكريين في سجن رومية المركزي». هكذا يُوصّف أحد الضباط حجم المتورطين في ملفات الفساد المفتوحة في المديرية العامة لقوى الأمن، وأبرزها: سرقة المازوت واختلاس المساعدات المرضية والتلاعب بالدرجة العسكرية للرتباء والعناصر وسرقة المساعدات الاجتماعية. المشتبه فيهم بالمئات، والمبالغ المسروقة بعشرات المليارات
لم تجرِ جلسة استجواب العميد محمد قاسم كما كان متوقَّعاً. لم يمرّ فنجان القهوة مرور الكرام. مَثَلَ قائد وحدة الإدارة المركزية السابق أمام المحامي العام التمييزي شربل أبو سمرا، إثر استدعائه على خلفية اتهامات بسرقة واختلاس مليارات الليرات، بعدما حُرِّك الملف بنشر «الأخبار» معلومات عن تحقيقات تجريها شعبة التحقيق والتفتيش في قوى الأمن حول سرقة المساعدات المرضية للعسكريين المتقاعدين وعناصر الخدمة الفعلية.
حضر قاسم متَّهِماً الصحافة والإعلام بفبركة ملفات والتشهير به. ولمّا ووجه الضابط بالمعطيات المتوافرة، اتّهم رئيس شعبة التحقيق والتفتيش العميد عادل مشموشي بالوقوف ضده لوجود عداوة شخصية. إلى قاسم، حضر جلسة التحقيق عدة مشتبه فيهم وشهود، بينهم عناصر خدموا تحت إمرته. أحد هؤلاء كان المؤهل أول خالد نجم، الشاهد الذي اعترف بقيامه بعمليات تزوير بإيعاز من قاسم.
رتيب متقاعد اشترى أربع شقق ومنزلاً في تركيا بـ 275 ألف يورو
إفادة نجم «دهورت» صحّة العميد المتقاعد الذي طلب نقله إلى المستشفى، فوافق أبو سمرا وأبلغه أنّه قيد التوقيف. صُدِم العميد، فعدل عن مطلبه راجياً إرجاء التحقيق إلى الغد لأسباب صحية. وهكذا كان، إذ نُقل إلى غرفة لدى المباحث الجنائية الخاصة ليُرجأ التحقيق إلى اليوم. كذلك استمع أبو سمرا أمس إلى ضابط برتبة عميد يدعى ع.خ.، لكنه تُرك تمهيداً لاستكمال التحقيق. وكشفت المصادر أنّه على مدى ثلاثة أيام (اليوم والخميس والجمعة) سيستمع المحامي العام التمييزي إلى إفادات أكثر من ١٢٠ عسكرياً بين ضابط ورتيب وعنصر. ومن بين هؤلاء، سيمثل في غرفة التحقيق جميع رؤساء الفروع في وحدة الإدارة المركزية. وبحسب المعلومات، تبيّن حتى الآن أن المتورطين الرئيسيين في سرقة المساعدات المرضية هم ثلاثة عمداء وعقيدان وعدد من الرتباء. ورغم ربط إحالة الملف برغبة سياسية في التصويب على المدير العام الأسبق اللواء أشرف ريفي، إلا أنّ المصادر القضائية أكّدت أنّ أحداً من المستجوبين لم يأتِ على ذكر ريفي. كذلك قدّرت المصادر المبالغ المسروقة بمليارات الليرات، لكن لم تتوصّل التحقيقات إلى حصرها بعد. وتحدثت المعلومات عن تورط هؤلاء في تزوير فواتير وتقارير طبية، مشيرة إلى أنّ أحدهم كان يُحصّل مبلغ خمسة ملايين ليرة شهرياً على مدى تسعة أعوام.
وبالعودة إلى ملفات التحقيق التي فُتحت على مصراعيها في المديرية، يحضر دور شعبة التحقيق والتفتيش التي سجّلت إنجازاً غير مسبوق. الشعبة التي لم يكن لها دور يُذكر سابقاً، تمكنت من كشف تورّط نحو ٤٠٠ عسكري بين ضابط ورتيب وعنصر، بعدما أعادت فتح التحقيقات في ملفات قديمة. الشعبة التي يرأسها مشموشي، رئيس مكتب مكافحة المخدرات السابق، فتحت كل ملفات الفساد دفعة واحدة بطلب من المدير العام اللواء إبراهيم بصبوص. كذلك تحدثت معلومات عن فتح ملفات تحقيق في مصلحة الأبنية والآليات، وعلّق أحد الضباط قائلاً: «رغم جسامة ما أُثير إلا أنّ ما خفي أعظم».
في ملف تزوير الدرجات، علمت «الأخبار» أن التحقيقات كشفت تورط نحو ٧٠ ضابطاً ورتيباً وعنصراً في قضايا ابتزاز وسمسرة مع العسكريين. إذ كان المشتبه فيهم يعرضون على العسكريين تحصيل مساعدة اجتماعية لهم بشرط الحصول على نسبة ثلثيها. كذلك كانوا يتلاعبون بالدرجات العسكرية للعناصر والرتباء، ليُصار بعدها إلى تحويلها إلى وزارة المالية من دون أن يتنبّه أحد لذلك. وبعدها يقومون بسحب بيان الراتب كي لا يصل إلى صاحب العلاقة للحؤول دون معرفته بكيفية إتمام العملية. على سبيل المثال، افتُضح أمر أحد عناصر جهاز أمن السفارات الذي تبيّن أنه متورط في الملف. وفي خلال التحقيق معه، تبين أنّه في الملفات قبض خمسين مليون ليرة، لكنه عملياً لم يقبض إلا ثلث المبلغ. وقد بيّنت التحقيقات أنّ عمليات التلاعب بدأت منذ أكثر من عشر سنوات.
وعلمت «الأخبار» أنه قبل فتح التحقيق، استُحصل على قسم من المعلومات من وزارة المالية. كذلك أصدر المدير العام سلسلة برقيات عقوبة بحق عدد من الرتباء. فقرر سجن رئيس قلم الرواتب في مكتب الرواتب والتعويضات التابع للمصلحة المالية بجرم العبث في بيانات الرواتب والتلاعب بأرقام درجات بعض العناصر متواطئاً معهم لاختلاس أموال عامة. كذلك طلب سجن اثنين من رتباء قلم مكتب الرواتب والتعويضات، أحدهم لأربعين يوماً والثاني عشرين يوماً، للتواطؤ مع رئيس القلم في التلاعب بالبيانات.
وترددت معلومات عن أنّ الرتيب ن. ص. (مركز خدمته في وحدة الإدارة المركزية)، وهو متقاعد منذ نحو سنة، اشترى منزلاً في تركيا بـ ٢٧٥ ألف يورو! وتبين أن لديه منزلاً في عكار واثنين في صيدا ورابعاً في قرية في قضاء جزين، وهي مسجّلة باسم زوجته واخته وابنه، وأنّه أهدى ابنته في عيد ميلادها سيارة بقيمة خمسين ألف دولار.
يعيش أبناء المديرية الأمنية اليوم حالة من تناقض المشاعر. يغلب الاستياء على الارتياح جراء فضائح الفساد التي تهزّ المديرية. وفيما يرى عدد من الضباط أن تداول هذه الملفات أمام الرأي العام يهشّم صورة المديرية، يرى آخرون أنّ «هذه الخطوة شرٌّ لا بدّ منه»، باعتبار أنّ بناء المديرية على أسس صحيحة يستلزم اقتلاع الفساد الضارب في الجذور. خطوة أولى على درب الإصلاح تسجّل للواء بصبوص.