الفساد كلمة فَسُدَت لبنانياً لكذا سبب. أوّل الأسباب طبعاً تخمة الفساد نفسه بحيث ما عاد المصطلح كافياً لاستيعاب شتى أنماطه وأنواعه.
وثاني الأسباب انشطار الحالات النفسية للناس بازاء ملفات الفساد وقضاياه بين تسليم قدري باستشرائه، وباستحالة مواجهته، وبين نوبات ارادوية تعتبر أنه يمكن تطهير قطاع ما، الأدوية الفاسدة أو الأغذية غير المطابقة مثلاً، أو مراعاة تطبيق قانون ما، كمنع التدخين في الأماكن العامة المغلقة مثلاً، ومن بعدها يصير بالمقدور توسيع تجربة الاستقامة والنزاهة والشفافية وتحكيم القوانين وضابطتها. قسم كبير من الناس يتنقل ليلاً ونهارا بين التسليم القدري بالفساد وبين الحماسة التطهيرية له في قطاع بعينه، وهناك من يزيد على ذلك رغبات متوترة بقطع رأس الفساد بضربة واحدة، وهذه في العادة النغمة التي تعتاش عليها البيئات الحالمة باقامة حالات سلطوية أمنية من أي شكل كان، ويفترض ان تكون التجارب اللبنانية في هذا المضمار كافية لاقناع الناس بعدم تكرارها.
وهذا هو ثالث الأسباب، فالتحريض على فساد الطبقة السياسية في هذا البلد لم تحمله بعد الحرب قوى مهمومة بحماية مرادها من ألاعيب الأجهزة السورية واللبنانية، بل حملته الأجهزة نفسها، وبالاشتراك مع شبكات مافيوية بها الفساد يفترض أن يُعرّف. فبدل أن تكون هناك قوى شعبية، تواليها بعض الأجهزة، وتتقاطع معها بعض المافيات، وهذا بحدّه أمر اشكالي، فقد جاء الهرم مقلوباً: مافيات تتخذ من أجهزة بعينها سلاحها الضارب، وتواليها بعض القوى السياسية وبعض الشرائح الشعبية.
ويقابل ذلك السبب الرابع. وهو ان كل نقاش في هذا البلد يغرق في لغة لا تعني كلماتها شيئاً محدداً وواضحاً وله دلالة سياسية. خذ مثلاً شعار «قانون انتخابي عصري يضمن صحة التمثيل«. هل هذا معيار لاختيار القانون؟ هل هناك قانون سيقدّم نفسه مثلاً أنه باطل وغير تمثيلي؟ الأمر نفسه بالنسبة الى الفساد ومكافحته. هناك اجماع وطني وسياسي ضد الفساد بالشكل الذي يجعل من الفساد نفسه شراكة وطنية. الجميع ضد الفساد الى ان يعود القانون يحكم الجميع. هذا ما يردّده الجميع وهذا ما يضمن لكل من يريد تهميش مساحة الاحتكام الى القوانين فرصة سانحة لفعل ما يشاء.
السبب الخامس. الفساد، وخصوصاً في اللغة العربية وبالشكل المتداول كلمة يطغى فيها الأخلاقي على القانوني، وبخلفية «أحكام الطهارة والنجاسة« أكثر منها الواجب الأخلاقي كما نحت شروطه عصر التنوير وايمانويل كانط. ولأجل ذلك الفساد هو بالنسبة الى جمهور الناس ثنائية بركة ولعنة. بركة حين تكون استفادة منه ولعنة حين تبطل هذه الاستفادة. بركة حين يستفيد منه القريب ولعنة حين يستفيد منه المختلف. بركة حين يعرف الفاسدون كيف يسيّرون أمورهم من دون الاصطدام بالحائط أو التسبب بفضائح نافرة، ولعنة حين يفشل الفاسدون في تجديد دورتهم بطمأنينة وسلام.
السبب السادس متّصل بكون الفساد في آن واحد شكل من أشكال الاثراء والتملك غير المشروعين قانونياً لقلّة، وانطلاقاً من تطويعهم او استباحتهم للقوانين والمرافق والوظائف العامة، وبين كونه شكل من أشكال السلّم الاجتماعي واعادة توزيع الثروة، في بلد لا تعرف قوانينه وسياسات حكامه أي هامش لاعادة توزيع الثروة أو لتطبيق «العدالة الاجتماعية« المنصوص عنها في مقدمة الدستور، غير توسيع القاعدة الاجتماعية للمستفيدين الثانويين من عمليات الفساد الجارية على قدم وساق.
السبب السابع الذي يجعل الفساد كلمة فسدت هو انّ المستخدمين اليوميين بشكل محموم لها، سواء في النخب أو بين القطاعات الأوسع، يهرعون اليها كما لو لم يكن هناك سياسة في هذا البلد، كما لو ان السياسة هي فقط للتستر على عمليات الفساد، كما لو انّ العلاقات بين الطوائف هي أمور واهية، يراد منها فقط الهاء الناس، كما لو ان سلاح «حزب الله« هو قضية مفتعلة، بل ان بعض «اللا – فساديين« يأخذ على هذا السلاح أنه لم يستخدم لمحاربة الفساد كما يجب! كل هذا تهريج.
السبب الثامن هو الغرق في تهويمات مرضية. هذا يقول لذاك «الكل فاسد«. وذاك يقول لهذا «نعم ولكن لا تجوز النسبية«. هناك كبار الفاسدين وهناك صغارهم. صاحبنا هنا يحسب انه يسدّد ضربة قاضية. في حين انها الحيلة التي يعتمدها كل طرف للقول بأن فساده رحيم، و«مهضوم«، وانّ العتب على شراهة «الشريك في الوطن«، وهكذا.
السبب التاسع انّ ليس كل ما نسميه الفساد فساداً. المحاصصة مثلاً ليست فساداً بالضرورة. يمكن ان تقونن المحاصصة بين الطوائف بشكل يجعلها أكثر مناعة بوجه عمليات الفساد. محاصصة في بلد يتوسع في لامركزيته بشكل واسع النطاق، يفترض ان تكون اقل «فسادية« من محاصصة في بلد يصرّ على مركز متضخم لتوزيع واعادة توزيع كل الحصص.
السبب التاسع ان «الطبقة السياسية« المشهر بفسادها ليس بمصطلح له حيثية سوسيولوجية ما مثل الطبقة الاجتماعية، وليس له أي حيثية قائمة بذاتها، وهو مصطلح يستخدمه فريق سياسي ضد فريق آخر، وقسم من الطبقة السياسية ضد القسم الآخر، كما ان كل حديث عن الاوضاع الاقتصادية والمالية، على قاعدة تفضيل المافيات التي لا تخوض رأساً في السياسة، أو لا تتمحور فيها، افضل الذين يزاوجون الاعمال والسياسة، هو تفضيل فاسد. الطبقة السياسية يجوز استخدامها كمصطلح تقريبي، سياقي، اما استخدامها بشكل مطلق وكما لو كانت تعني رهطاً من الناس مفصولين عن مجتمعهم، كما لو كانوا يشكلون ادارة كولونيالية فوق هذا المجتمع، فكل هذا لا يخدم تحسين زاوية النظر.
السبب العاشر هو مفاهيم سحرية عن «الرأي العام« و«المجتمع المدني«. مثلاً: المجتمع المدني يفترض فيه ان يكون فضاء للطاقات الشعبية المراقبة عمل السلطة القضائية، كما باقي السلطات، لكنه لا يمكن أن يحل محلها. عندما يسمح ناشطون مدنيون مفترضون لانفسهم بتوجيه التهم ليس فقط بلا دليل ولكن قبل كل شيء من خارج او من فوق الآليات القانونية، فهذا قد يسوّغ لنفسه بعدم فعالية المؤسسات القضائية، لكنه تسويغ جزئي ويرتد سلباً عندما يستخدم بشكل اطلاقي، فيصير التشهير صنو التخوين في مجتمع كل شيء فيه حدس وغيب وتخمين بلا دليل، ولا آليات، ولا مؤسسات. اذا كان القضاء عاجزاً عن التصدي لقضايا الفساد، فان «القضاء البديل« المزعوم، سواء اتخذ لنفسه حلة برامج تلفزيونية او تحركات ميدانية، هو افساد محض لأي طريق ممكن لمعالجة قضايا الفساد.
السبب الحادي عشر، «السبب الكافي« المتضمن في كل هذه الاسباب ويجوز افراده لوحده، يبقى طبعاً، انه عبثاً تعالج أي كبيرة وصغيرة في هذا البلد، وعبثاً يأخذ على خاطرك من هذا السياسي أو ذاك الرأسمالي، وهناك في البلد شيء اسمه «حزب الله« في مقاسه الحالي.