IMLebanon

العقل اللبناني أسير الماضي وجاهل للحاضر والمستقبل؟

 

يبدو اللبناني وكأنّه أسير الماضي، لا يشعر بعيب لذلك، بل تراه يدافع عن أسره بعناوين كالوفاء والإلتزام. لا يهمّه أين أوصله هذا الماضي. فهو لا يجد شخصيته إلا به؛ لأنّه يجهل لعبة الحاضر ولا يفقه شيئاً من لعبة المستقبل. لا أعلم كم من اللبنانيين أمكنهم أصلاً متابعة التطوّرات التي شهدها المجتمع الدولي في السنوات الأخيرة، وكم من بين هؤلاء، قد استفاد من متابعاتها لإعادة قراءة الوقائع المحيطة بلبنان إستناداً إليها.

 

تشكّلت أخيراً الحكومة. من هو أسير الماضي تغافل عن أنّها نموذج آخر لحكومة سلفه الرئيس الدكتور دياب، لكن من يقرأ الحاضر والمستقبل عليه أن يتساءل كيف أمكن للرئيس عون وصهره، تحقيق هذا النجاح “الكبير”، والحصول على الحكومة التي يريدان؟ كنا ندرك تماماً أنّ بعض القيادات التي اندفعت إلى تحقيق”التسوية”، تسهيلاً لإقامة هذه الحكومة، فعلت الأمر ذاته عندما كان الرئيس الحريري نفسه مكلفاً تشكيل الحكومة. هي فعلت ذلك دائماً، بغرض إرضاء الصديق “الكبير” الرئيس الفرنسي ماكرون. فما الذي تغير حتى وصلت الأمور إلى خواتيمها؟ هل قدّم الرئيس ميقاتي تنازلات للرئيس عون وصهره، لم يكن يقبل الرئيس الحريري بتقديمها؟ لم نسمع أي احتجاج أو معارضة من الرئيس الحريري، مما يعني أنّ تلك التنازلات لم تكن هي المفتاح لتشكيل الحكومة.

 

نحن كنّا على قناعة أن لا حكومة في لبنان ما لم يوافق حزب إيران عليها. ظهر ذلك جليّاً منذ تكليف الرئيس سعد الحريري. وما حصل فعلاً هو أنّ الحزب لم يكن يريد أن يتولّى الحريري الحكومة. أمّا الآن فيبدو أنّ الحزب موافق على الرئيس ميقاتي، وأعطى الضوء الأخضر لقبول تشكيل حكومة. الرئيس ميقاتي يملك تاريخاً من الولاء للحزب، ولا يملك قوّة الرئيس الحريري في الشارع السنّي، لذلك لا يشكّل منافساً أو خطراً على قرارات الحزب المستقبلية.

 

من جهة أخرى، إيران كانت قد وافقت على حكومة تدفع بها فرنسا، لكنّها تركت للحزب اتّخاذ الموقف المناسب له. فإيران أصبحت مقتنعة بأنّ الولايات المتّحدة لن تقيم معها تسويات من خلف ظهر فرنسا. فرنسا هي المولجة ملف لبنان. وعليه، فإنّ هذه الحكومة هي حكومة حزب إيران وماكرون. ويمكن أن نقول بوضوح مبروك للرئيس ماكرون.

 

من يذكر الماضي، كيف له أن ينسى دور الرئيس ميقاتي والإتّهامات القائمة ضدّه بالفساد؟ من جهتي، ولأنني آخذ الحاضر والمستقبل بالحسبان، قلت مراراً انّ فرنسا وأوروبا، ومن خلفهما الولايات المتّحدة والإتحاد الروسي، يريدون تهدئة الأمور في لبنان، فلا تقع مشاكل أمنيّة، تُخرج الأمور عن حدودها المضبوطة حتى الآن. الإنفجار الأمني، يعني تدفّقاً جديداً للاجئين نحو أوروبا، فيما المطلوب هو تدفّق الكفاءات والطّاقات التي تخدم الإقتصاد فيها. ويعني أيضاً، قيام أوكار للمجموعات الإرهابية تتمدّد لاحقاً إلى أوروبا. أهون الشرور بالنسبة إليهم، هو قيام حكومة محاصصة برعاية حزب إيران، تعيد للناس مقوّمات حياتهم اليومية. ستتدفّق الأموال إليها. ولا يهمّ إن كانوا سيسرقون بعضها، فكلّ تلك الأموال هي في النهاية، ديون مترتّبة على حساب شعبنا، ومتراكمة على كاهل الأجيال الطّالعة. هذا إضافة إلى أنّها مضمونة بأموال الفاسدين الموجودة في مصارفهم والتي ستتمّ مصادرتها حين الحاجة.

 

أنا لا أستطيع أن ألوم أحداً من حكّام الدول الذين يعملون لمصلحة شعوبهم. لكنّني ألوم اللبناني الذي سمح أولاً، بتحويل بلاده ساحة مفتوحة للصوص والمافيات، تحت عنوان الوفاء والإلتزام. وكذلك اللبناني الذي ما زال يسمح للدول المتصارعة، أن تستخدم ساحته لتحقيق مصالحها. نحن نرى محاولات لتغيير البنية اللبنانية، بهدف تحويل ثقافة الإحتلال التي تطغى على عقول الناس حالياً، إلى نظام قانوني يكرّس هذا الإحتلال طويلاً.

 

سمع الناس ما يكفي من كلام حول فساد السلطة، وحول طغيان مصالح فرنسا وغيرها من الدول المستفيدة. كلّ ذلك من دون البدائل المقنعة التي تسمح لهم بمواجهة هذا الواقع. قدّمت دائماً رؤيتي لهذه البدائل، على أمل أن يسمع صوتي من يدّعي السيادة. لم أطلب شيئاً خاصاً لنفسي، ولم أسع إلى أيّ هدف خاص. لم آبه أن يذكر إسمي ولم ألهث خلف المديح وغيره. كنت أتمنّى أن يفهم من يُفترض بهم أن يقرأوا الحاضر، ويستشفّوا من خلاله المستقبل، ضرورة فهم موضوع العولمة بعمق، لإدراك ما يحكم التفكير الخارجي بشأننا. طالبت وما زلت، أن نستفيد من حقوقنا التي كرّستها العولمة، وأن نقتحم ساحاتها ونواجهها بسلاحها وفكرها. لكنّني لم أنجح كثيراً. حتى غبطة البطريرك، الذي استشفّ أيضاً كلّ هذه الحقائق، لم يحظ بعد بفهم كاف لمواقفه. ما زالت عقلية النزاع الداخلي تطغى علينا، ويطغى فعل الإنتقام على العدالة. مثال على ذلك: ما زال بعض السياديين يطالبون بتنفيذ القرار 1559، ويتجاهلون موجب تنفيذ كل القرارات الأخرى، ولا سيما إتفاقية الهدنة لعام 1949.

 

ويطغى أيضاً علينا الفكر الطائفي، إذ يطغى فعل الإنتماء الديني على تفكيرنا بدلاً من الإعتراف بضرورة غلَبة الهويّة الوطنية عليه. مثال على ذلك: يرفض حتى الآن بعض السياديين، مطلب ملاحقة الرؤساء والرؤساء الآخرين والوزراء بتهمة الخيانة العظمى، وانتهاك الدستور.

 

كما وما زالت الأنانية والشخصنة تطغيان على الحاجة للتعاون المشترك، والإقرار بأن أسمى ما في الشخصنة، هو تفعيل المصلحة الوطنية التي تحفظ وحدها المصلحة والكرامة الشخصية.

 

لم يكن الرئيس ماكرون لينجح لو كنا نشعر بانتماء لوطننا. هل يمكن للرئيس ماكرون أو غيره، أن يفرض على اليهود غير ما يريدونه؟ الموضوع ليس في تحكّمهم برؤوس الأموال الوطنية لتلك الدول التي تدعمهم، بل في طريقة عرضهم لقضاياهم أمام الرأي العام في العالم. علينا أن نقنع الفرنسي أولاً، أنّ مشكلتنا ليست بتأمين الغذاء والبنزين فحسب، بل بالإحتلال المقنّع القائم على رؤوسنا، وبتواطؤ السلطة الفاسدة معه. علينا أن نقنع الرأي العام في فرنسا وغيرها، أنّ حكومة ميقاتي هي نموذج آخر لحكومة “فيشي” خلال الإحتلال النازي لفرنسا. عندها لن يجرؤ الرئيس ماكرون، على تحدّي كرامتنا الوطنية وإرادة شعبنا. فهل من يسمع؟