تبلَّغنا الرسالة… والرسالةُ تقول: إنّهم يعتبون علينا: يلومون، يستاؤون، وحجّتهُـمْ أنَّنـا نوجّـه إليهم الكلام افتـراءً كما السهام، وأنَّنـا نتجنّى عليهم بالقدح اللاَّذع والنقد.
من حقّهم أنْ يعتبوا، وأنْ يغضبوا، كأنّهم ملائكة يتقطّر الطهر من أثوابهم، وكأننا أمام الثالوث الأقدس وعلينا أن نحمل المباخر تمجيداً، وأنْ نجلس أمامهم كما يجلس «المجوس» أمام النار المقدّسة.
ونحن لا نزال نكبّل جموح القلم، ونكبِتُ جنون الكلمات، مع أن المأساة لم تعد تسمع بالمجاملة.
حتّى يوحنا الإنجيلي، لم يكتُمْ ثورته حيال هـوْل المآسي في روما، «فوصفَ نيرون بالوحش، ووصف روما بالزانية وقد سكر ملوك الأرض من خمرة زِناها، وهي مصدر الظلم والفساد والفسق والوثنية، والقياصرة فيها يتعطّشون للدماء (1) …
إذا كان قلمنا لا يطيب لهم، فما علينا إلاّ أنْ نستنجد بأقلام الآخرين لعلّها تكون أرحم من أقلامنا في وصـف أهوالنا.
ها هو الشاعر الإيطالي الشهير «بترارك» يصـف مدينة «أفينيون» بما يشابه المشهد اللبناني الرهيب فيقول: «إنها بابل، جحيم الأرض مستودع الرذيلة والأقذار، لا تجـد فيها إيماناً ولا إحساناً ولا ديناً ولا خوفاً من الله، لقد تجمَّعتْ فيها جميع أقذار العالم وخبائثـهُ (2) …
عندما يشعر المواطن أنَّـه يعيش في جهنّم الأرض، وفي بيئـةٍ عدوانيّة تهدّدهُ في كـلِّ لحظة بالدمار الساحق، فلا بـدّ من حماية نفسه من الرُعبِ بالرعب، ومواجهة الظلم المخيف بالسلوك العنيف.
أَلا يـرون، كيف نتج عن بربرّية السلطة وهذَيانها، حالةٌ من الذعر الشعبي واليأس والمجاعات، تسبّبت بأمراض نفسية وشذوذات ذهنية وأخلاقية طائشة، فشاع الإجرام الإجتماعي: القتل والخطف والسرقة والإغتصاب والإغتيال والإنتقام… مداهمة أبواب المقابر، والتقاتل على الرغيف بالسلاح الأبيض في الأفران، والقتل في المخازن الغذائية بالرصاص الحـيّ، حتى إنّ لجنة من الأطباء أعلنت منذ حين: أنّ كـلَّ يومين ونصف اليوم، تقع حالة انتحار في لبنان.
ومع هذا، يقولون: إنّنا نتجنّى عليهم، ونبالغ في الإساءةِ إليهم، وهم ما زالوا يتحلّقون حول ضحايا الإنهيار ويصرّون على الإستمرار، ولا يستشعرون ألَمـاً ولا نَـدماً: «لهمْ قلوبٌ لا يفقهون بها ولهمْ أعينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها (3)…»
عندما تُحالُ الدولة بكامل مؤسساتها إلى التقاعد…
تصبح مهمة القضاء معاقبة الضحايا والتواطؤ مع المجرمين…
وعندما تصبح إغراءات الموت أفضل من إغراءات الحياة…
وعندما تصبج تأشيرة الهجرة أهمّ من الهوّية الوطنية…
وعندما تصبح السلطة الحاكمة عـدوّة للشعب…
عند ذاك يكون الكتّاب هم رجال الشعب في وطـن ليس فيه دولة ولا حكمٌ ولا قانون.
هكذا كان شأن الفيلسوف الفرنسي «ديدرو» قبيل الثورة الفرنسية فرأى أن إصلاح الحال لا يتمّ إلاّ بنشر الأفكار التحررية بين طبقات المجتمع فوضع كتاباً بعنوان: «رسالة العميان إلى المبصرين» فكان من حوافز تأجيج الثورة لتحرير الشعب من جـور الملكية.
مثلما كان الفيلسوف «فولتير» زعيم الفلسفة المادية في فرنسا صاحب القلم اللاّذع في مقاومة السلطة الطاغية وهو يقول: «أعتقد أنني أخـلّ بواجبي نحو الجمهورية ونحو الحقيقة إذا ما لبثْتُ أبكم».
نعم… تلقينا الرسالة مع الشكر، ولكن لن نخـلّ بواجبنا ولن يتحول القلم إلى أبكم.
سنردّّ على أيِّ رسالة برسالةٍ، ولكن بعنوان: من المبصرين إلى العميان.
1 – رؤيا يوحنا : الفصل السابع عشر.
2 – قصة الحضارة: وِلْ ديورانت : المجلد 5 – الجزء : (1) – الفصل: (1) ص. 100.
3 – سورة الأعراف: 179.