Site icon IMLebanon

الفسادُ حالةٌ كيانيةٌ وممارسةٌ فيدراليةٌ

ليس العجبُ أن تَحصُلَ تسوياتٌ، تأخذ طابَعَ صفقاتٍ، على الملفات الإنمائية والثروات الوطنية. فمفهومُ الثروةِ الوطنية سقط في لبنان أمامَ مفهوم الثروة المناطقية، والشعورُ الوطني تَرهَّل في وطن فقدَ وِحدتَه المجتمعية.

إن نظامَ المحاصصةِ انبثق من النظام السياسي المرحلي وأصبح ملازِماً له. برز هذا النظام السياسي بعد حربِ السنتين سنةَ 1976 وتكشّف في مؤتمري لوزان وجنيف سنةَ 1984 وتثبَّت دستورياً في اتفاق الطائف سنةَ 1989 واستُتبِع بتسوية الدوحة سنةَ 2008 ليتجلّى بيقظةٍ متأخرةٍ في انتخابات رئاسة الجمهورية وتشكيل الحكومة وفي باكورة قراراتها حول النفط والغاز.

اللافتُ، أن مسارَ التعديلاتِ الدستورية يَنحو أكثرَ فأكثر نحو: حُكمٌ فدراليٌّ داخلي يتبدّلُ فيه المكوِّن القوي، وحُكمٌ مركزيٌّ خارجي تَتبدّلُ فيه الدولةُ الوصية. وإلى أن يُحسمَ مصيرُ النظامِ اللبناني، بل الكيان، تَجري عمليةُ تجويفِ الدولة المركزية بشكل يوميّ حتى أيام الآحادِ والأعياد.

إن عَكَسَت هذه التعديلاتُ الدستورية والسياسية المتواليةُ تطورَ موازين القوى العسكري أو الديمغرافي أو الاثنين معاً، فإنها عاكسَت مفهومَ الكيانِ اللبناني الصيغوي، أي «الروح الميثاقية». إن الدولةَ اللبنانية في مقاربتِها التقسيمية للملفات الأساسية في لبنان ـ تحتَ ستارِ الانماءِ المتوازن ـ باتت تُشبه دولاً مقسَّمةً أو فيدراليةً أو فيها حكمٌ ذاتي مثلَ العراق واليمن وليبيا والسودان وأفغانستان (مشَرِّفٌ هذا التطور).

طبيعيٌ أن نَستهوِلَ امتدادَ الفسادِ في الدولة اللبنانية (الطبقة السياسية، الإدارة والمجتمع) ونتنادى لمكافحته. لكن التصدي له يَستوجب بدايةً إدراكَ طبيعتِه وأصوله وأسبابه لئلا تَفشَلَ المكافحةُ ويبقى الفساد كما حصل حتى الآن.

صحيحٌ أن الفساد موجود تقليدياً في لبنان وفي كل الدول، بما فيها دولةُ الفاتيكان. كان المفكّر الفرنسي في القرن السابع عشر «لاروشفوكو» La Rochefoucauld يقول: «إن الفضائلَ تَـضيع في المصالحِ كما تَضيع الأنهرُ في البحار». أما نحن في لبنان فنُجَفِّف الأنهرَ قبلَ أن تصلَ إلى البحار. لقد تحوّل الفسادُ عندنا من فرصةٍ عابرة إلى ثقافةِ راسخةٍ ترعى الصفقاتِ والمحاصصة.

حصل هذا التحوّلُ النفسيّ مع الحروبِ في لبنان، حيث ازدهرت التجارةُ غيرُ الشرعيةِ عبرَ الحدودِ الدولية وخطوطِ تماسِ الكانتونات ومِن خلال مرافئِ الميليشيات والمطار. وتوطّدت هذه الثقافةُ في ظل الاحتلال السوري، فكان ضبّاطُه قادةَ الفسادِ وضابطي إيقاعِه.

واستحصل الفسادُ على رخصةٍ شرعيةٍ مع دخول الأثرياءِ الكبار إلى قلب الحياة السياسية اللبنانية ـ وهي ظاهرةٌ لم يألفْها مجتمعُنا سابقاً ـ ومع بروزٍ طبقةٍ سياسية رضَعت الفسادَ مع الحليب ولاسيما الفسادَ الوطني وهو أخطر من الفسادِ المادي، ومع عجزِ الأجورِ عن تغطيةِ نفقات الحياة. هكذا أصبح الفسادُ، بوجهيه، جُزءاً من حياتنا اليومية فتطبَّع عليه أكثر من جيلٍ طَوالَ السنوات الأربعين الأخيرة.

ما عدا الفسادَ الإداري (الرشوة)، وهو النسبةُ الأقل، إن «الصفقاتِ النظاميةَ» هي النسبةُ الأكبر من الفساد في لبنان. الأولى تتمّ على حسابِ المواطنين (مواطنٌ يدفعُ لموظف). أما الثانية فتتمّ على حساب خزينةِ الدولة والمواطنين معاً (مسؤولون يتقاسمون الثرواتِ الوطنيةَ والمشاريعَ الإنمائية).

إذا قارنا نسبةَ مديونية الخزينة اللبنانية نَجدُها مساويةً لنسبةِ ثرواتِ أركان الطبقةِ السياسية اللبنانية والمحيط. سنةَ 1988، ذكر الصحافيُّ الفرنسي «بيار بيان» Pierre Péan في كتابه «المال الأسود» أن ثروةَ جوزيف موبوتو رئيسِ الزائير (الكونغو سابقاً) توازي تحديداً ديونَ ذاك البلد الإفريقي. الفارقُ أن شعبَ الكونغو طردَ موبوتو فلجأ إلى فرنسا ثم توفي في المغرب، في حين أن شعبنَا لا يزال يَفتدي بالروحِ وبالدمّ أشباهَ «موبوتو» اللبنانيين. نأخذ على النواب أنهم يُمدّدون لأنفسهم مرةً أو مرتين، لكننا ننسى أننا كشعب نمدّد انتخابَهم منذ أربعين سنة.

من دون تهميشِ العامل الأخلاقي في «الصفقات النظامية»، ما يجري ليس ظاهرةً لا أخلاقية فقط يُمكن القضاءُ عليها بالتربية المنزلية أو بالأحكام القضائية أو بالتدابير الأمنية أو بالأجهزة الرقابية أو بتغيير الطبقة السياسية. الأمر يتعدّى الأخلاقَ إلى الدستور، نعم إلى الدستور، حيث أن الفسادَ في لبنان هو حالةٌ كِيانية تتخطى تجاوزاتِ الفردِ وحتى ثقافةِ المجتمع.

إنه صراعُ الدويلاتِ الطائفية داخلَ الدولة وصراعُ المحاصصةِ المناطقية على حساب إرثِ الدولة. إن الصفقات تجري في لبنان بين قوى حاكمةٍ في مناطقِها وليس بين قوى تَحتكم إلى الدولة اللبنانية المركزية. إن رؤساءَ الأحزابِ والتيارات والكتل هم زعماءُ طوائف، والطوائفُ هي أصحابُ المناطق: هذه للسُنَّةِ وذانِك للشيعة، تَا للمسيحيين وتلك للدروز. واقعٌ مؤسف.

ويَزعم زعماءُ الطوائف أنهم مؤتَمَنون على كلِّ ما تحتَويه مناطقُهم أكان فوقَ الأرضِ أو تحتَها براً وبحراً وجواً. لا بل يتصرفون وكأنهم على أبوابِ الفدرالية أو حتى التقسيم، ويتهافَتون على حجزِ الحِصصِ مسبقاً من خيراتِ الدولة المركزية. هذه هي الحقيقةُ بكل بساطة. وما نسمّيه اليومَ حِصصاً هو بنظر القوى السياسية تموضعٌ إرثي للطوائف والمناطق بانتظار الهندسة الجديدة للبنان.

وبالتالي، بقدْرِ ما أؤمن بنيةِ العهد على مكافحة الفساد، أظن أن مهمتَه صعبةٌ ما لم تُحسَم الهيكليةُ الدستوريةُ للدولة اللبنانية: إما أن يتحوّلَ لبنان دولةً فيدرالية تطبيقاً للواقع القائم وانسجاماً مع الممارساتِ الجارية، فيصبح ما نسميه فساداً وتسوياتٍ حِصصاً شرعيةً للوَحَدات الفدرالية.

وإما أن تَلتزمَ القوى السياسيةُ بالدولةِ المركزية (الموجودةِ نظرياً) فتعودُ حالةً دستورية فعلية، وبذلك تزول الصفقاتُ والتسوياتُ وتصبح مكافحةُ الفسادِ ممكِنة. ما عدا ذلك، تبقى محاربةُ الفسادِ ووقفُ الصفقات مسألةً إعلاميةً تطالُ الصغارَ وتُوفِّر الكبار.