Site icon IMLebanon

فساد.. حتى الموت

في كل مرّة نطالب فيها بطاولة حوار اقتصادية، نبدو وكأننا من كوكب المريخ ولا علاقة لنا بأرض الواقع.

كأنّ الخطورة الاقتصادية التي نواجهها اليوم هي من الكماليات التي لا مجال لمناقشتها في فترة الاحتدام والشلل السياسي، والمحزن أنّ الاتفاق الاقتصادي يكون أسهل من الاتفاقات السياسية وأوضح، ويتبع معايير علمية واضحة. الأسوأ أننا نتراجع يومياً عبر كلّ المؤشرات العلمية والاقتصادية، إلّا أنّ التعامي عن المشكلة يبقى مستمراً ولا خطة شجاعة لقلب حال الشلل الدائمة التي تُهدّد في الدرجة الأولى فرص الإنتاج.

في تقرير Doing Business 2016 الذي يُصدره البنك الدولي، تراجع لبنان درجتين ليحتلّ المركز 123 عالمياً بعدما كان في المركز 121 عام 2015، والأخطر أنه تراجع ست درجات في فئة تأسيس عمل جديد ما يُعطي صورة واضحة عن الإنتاجية التي تتراجع يوماً بعد يوماً.

أما مؤشّر الحرّية الإقتصادية للعام 2016 الصّادر عن مؤسسة البحوث العالمية Heritage Foundation وصحيفة Wall Street Journal، فاعتبر أنّ البيروقراطية في القطاع العام والنقص في الشفافية يخلقان بيئة غير مؤاتية للمستثمرين. وقال إنّ نقاط الضعف لا تزال قائمة في مجال حماية حقوق الملكية، والإنفاذ الفعّال لتدابير مكافحة الفساد، في حين لا يزال القضاء عرضة للنفوذ السياسي.

جاء في التقرير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية الذي يعتمد «مقياس باروميتر الفساد لعام 2016»، والذي تنشره المنظمة سنوياً الى جانب مؤشر مدركات الفساد، أنّ الأرقام تنذر في لبنان بالخطر حيث يرى تسعة من كلّ عشرة أشخاص (٩٢ في المئة) أنّ الفساد قد ازداد بشكل ملحوظ، حيث حلّ لبنان في المرتبة الأولى بين الدول العربية في ارتفاع مستوى الفساد في إداراته ومؤسساته العامة. في حين ينظر إلى مسؤولي الدولة، وموظفي الضرائب، وأعضاء البرلمان على أنهم أكثر الفئات فساداً في المنطقة.

هذه المعطيات ليست من المريخ أو اختراعات عبّودية، هي مراجع ذات مصداقية عالية والأهمّ يقرأها كلّ مَن يدرس سوقاً استثمارية في بلد ما، أيّ لكلّ مَن يفكر بإطلاق استثمار أو عمل ما.

لم نتمكن بعد من إيجاد خطط ثورية لتغيير هذه الصورة القاتمة، فكلّ ما نقوم به هو التخبّط عشوائياً لإيجاد مصادر لخدمة الدين العام، وتأتي هذه الحلول دائماً على حساب الضرائب المباشرة التي تُرهق المواطن ولا تقدم خيراً للمجتمع، في حين نتناسى مئات المصادر الأخرى التي تبقى غير عرضة للمساءلة، واللائحة تطول من المرفأ الى المطار، الاستيراد والتصدير، الاتصالات والإنترنت، الكسارات، الأملاك البحرية، قانون السير، السلاح غير الشرعي، التخمين العقاري، النفايات، التهرّب من الـTVA والاقتصاد الأسود، حيث إنّ نحو 50 في المئة من العمليات التجارية هي خارج منظومة الـTVA اليوم.

كلها موارد فائتة اختارت الدولة منحها بطرق احتكارية ومحاصصة، من دون الأخذ في الاعتبار حصة الدولة أو الخدمة التنافسيّة أو حماية الجو الاستثماري العام.

والأسوأ من ذلك أننا لم نعد نستحي حين نوصَف بالفاسدين، لم نعد نثور لمحاولة كشف حالة فساد واحدة، وكأنّ الصفة أصبحت طبيعية ولازمة، وكأنّ الرشوة من عدة العمل اللبنانية، وكأنّ المناقصات الملغومة حالة طبيعية لا تستوجب ردّ الفعل.

ما زلنا نصرّ على تيئيس المستثمر أو الصناعي، نريد تهجير كلّ مَن يخلق فرص الإنتاج، فنبتدع الإجراءات الغريبة التي لا منطق لها، في كلّ شيء من دون استثناء، يواجه المستثمر وكأنه يواجه غابة لا قانون فيها، من الجمارك الى زواريب وزارة العمل والضمان الاجتماعي، الى مؤسّسة كهرباء لبنان، الى كلّ نوع معاملة أو خدمة تُقدَّم في لبنان، الإنترنت الأبطأ والأغلى في المنطقة، انقطاع الكهرباء، عمال أجانب يدفعون رسوم تغطية صحّية في الضمان الاجتماعي ولا يستفيدون منها، تعدٍّ صارخ على حقوق الإنسان…

الطرود السريعة التي تستغرق أياماً وأياماً لتخليصها، والخبر الأخير جمارك مرفأ بيروت تفرض على كلّ شحنات خام حبيبات البلاستيك المستوردة من شركات معروفة في السعودية وتحديداً «سابك»، لمصانع معروفة في لبنان المرور عبر الخط الأحمر ما يزيد نسبة التأخير، وتأخير الإنتاج ومئات الدولارات الإضافية المدفوعة. فما المنطق من ذلك؟ ما هي نسبة خطر أن تحتوي شحنات من شركات معروفة ومعتمدة عالمياً على مواد مهرَّبة؟

عادة تدابير من هذا النوع تكون انتقائية لبعض المستوردات التي يحوم حولها الشك، ولكن لا بد من التذكير بأنه في لبنان أصبح معدّل تخليص البضائع أكثر من إثني عشر يوماً وهذا رقمٌ مخيف ويزيد الأكلاف على المستهلك.

كلّ ذلك هو وصفة سحريّة لتهجير أيّ استثمار أو أيّ أمل بالاستثمار في لبنان. ويأتي مَن يقول لك إنّ كلّ ذلك ليس أولويّة، ونسأل أين الصعوبة في هذه الملفات؟ أين الصعوبة في الإتفاق على طاولة الحوار على قطع يد السارق والمرتشي؟ أين الصعوبة في محاسبة كلّ إهمال يؤدّي الى تشويه صورة لبنان اقتصادياً وعالمياً؟

تأتي إجراءاتُ مصرف لبنان الأخيرة لتذكّرنا بأهمية التحرّك لمعالجة حال الركود في لبنان، فقد قرّر مصرف لبنان دعم المصارف التجارية بنحو المليار دولار لإنعاش القطاع المصرفي، ومن المفروض أن لا تُستعمل لزيادة الأرباح بل لتحسين ملاءة المصارف وربما لفتح شهية الاكتتاب بسندات الخزينة. كما تدخلات المصرف المركزي لإنقاذ السوق العقارية ومواجهة الركود العقاري من خلال تأمين سيولة للمصارف تصل الى 50 في المئة من قيمة العقارات المرهونة والمتعثّرة وإطالة فترة السنتين لتصفية العقارات المستملكة للحدّ من سرعة انهيار أسعار العقارات.

إنّ خطوات المصرف المركزي يجب أن لا تبقى يتيمة، فهي إنذار أوّلي للركود الاقتصادي الذي يعيشه البلد، ولن يتحسّن هذا النمو إذا لم يُصَر الى عقد طاولة حوار اقتصادية تكون الشعلة الأولى لسياسة اقتصادية جديدة في لبنان قائمة على اتفاق كلّ الزعامات السياسية على أن تتوقف عن حماية الفاسدين والمفسدين والحرامية، فإذا انهار الهيكل الاقتصادي فسينهار على الجميع.

هنا أود أن أوضح أنني لست رجلَ دين أو مبشّراً، والموضوع ليس درساً في الأخلاق. فإذا لم يتوقف الفساد، نحن اليوم مهدَّدون بوجودنا، وإذا وصلنا الى الانهيار فستنهار التركيبة وينهار المجتمع وسنعود الى زمن الاقتصاد اللامركزي الميليشياوي. إذا كان هذا المطلوب نستمرُّ في هذا الكم الهائل من الفساد في المجتمع، أما إذا أردنا التغيير فنبدأ بميثاق شرف بأن يتوقف الجميع عن حماية الفاسدين كما ذكرنا آنفاً.