بدأت تداعيات التعطيل الحكومي بالظهور على الأصعدة كافة وأهمها على الصعيد الاقتصادي. بين الإستحقاقات المالية للدولة اللبنانية والقرارات التشغيلية التي تطال حياة المواطن اليومية، يقف المواطن أمام المشهد الأليم للنفايات. فما هي العواقب الوخيمة التي تنتظر الإقتصاد وما هي كلفتها؟
من المعروف أنّ الحرب الأهلية اللبنانية عملت على «مذهبة» الإقتصاد اللبناني حيث إنّ كلّ طائفة في لبنان أصبح لها شركاتها ومصارفها ويتمّ التعامل معها على هذا الأساس. ووصل الإنقسام العامودي للمجتمع اللبناني إلى درجة أنّ ثمّة شركات تتعلق بشكلٍ كبير بالوضعين الأمني والسياسي كما وبوضع الأحزاب التي تنتمي إليها.
وإذا ما كان مبدأ المصالح الاقتصادية يفوق كلَّ مبدأ أخر في الحياة اللبنانية، فالمصالح الحزبية أصبحت لدى كلّ فئة تدخل في عامل السيطرة الاقتصادية على البلد كما أظهرته الفضائح التي تعصف حالياً بالساحة اللبنانية حيث يشْتَمّ المواطن اللبناني رائحة الفساد وبالتالي المصالح الاقتصادية لأصحاب القرار.
هذا النظام السياسي الحالي بتركيبته المركزية التوافقية أصبح يُشكّل خطراً على الحياة الاقتصادية بكلِّ ما للكلمة من معنى. لكن ما هو النظام الذي يسمح بحلحلة الأمور في ظلّ إنقسام أفقي وعامودي في المجتمع اللبناني؟ الجواب طبعاً باللامركزية الإدارية الموسَعة والتي تسمح بتفادي المشكلات التي يتعرّض لها المواطن في حياته اليومية.
تداعيات على الحياة الاقتصادية
نعيش حالياً في ظلّ إستحقاقات مالية، إدارية وإقتصادية عدّة تفرض أن يكون هناك قرارات صادرة عن الحكومة اللبنانية. وعلى رأس هذه الإستحقاقات، الإستحقاقات المالية التي بدأت منذ شهور وما زالت مُستمرّة كإستحقاق الـ 500 مليون دولار أميركي من الدين العام وفوائده.
وإذا كان لمصرف لبنان القدرة على تحمّل هذا الإستحقاق كما في الإستحقاق الأخير، إلّا أنّ هذا الأمر يعني أنّ السلطة المالية التي هي من صلب صلاحيات الحكومة أصبحت تنتقل إلى مصرف لبنان الموكل بموجب القانون الصلاحيات النقدية.
أضف إلى ذلك الإستحقاقات التي تتعلق بإصدارات مالية لدفع الرواتب والأجور في القطاع العام كما والنفقات التشغيلية في الوزارات والمؤسسات العامة. لكنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، بل إنّ كلّ الأمور الحياتية التي تتعلق بعمل الوزارات من مشاريع وغيرها، تفرض موافقة مجلس الوزراء.
ومن الإستحقاقات التي تواجه الدولة اللبنانية الإستحقاقات الإدارية والإقتصادية كملف النفايات، التعيينات في القطاع العام ومشاريع قوانين تطال النفط والشراكة بين القطاع العام والخاص ومراسيم وغيرها من الأمور المُجمّدة بسبب شغور منصب رئيس الجمهورية المُتنازَع عليه بين قطبَي 8 و14 وبين المسيحيين أنفسهم.
أيضاً يُمكن ذكر الفرص التي يُفوِّتها لبنان للإستفادة من الاتفاق على النووي الإيراني، إذ لا يُعقل أن تزور البلدان الأشدّ عداءً لإيران طهران بهدف عقود تجارية ولا تقوم الحكومة اللبنانية بمبادرة لكي تسمح بنفحة أوكسجين للإقتصاد اللبناني.
وإذا ما تأخر لبنان في وضع الأسس لتعاون من دولة لدولة مع إيران، فإنّ الدول الأخرى ستسبقنا وسيكون التعامل مع إيران من فئة واحدة وهذا الأمر لا يسمح حتى لهذه الفئة من الإستفادة القصوى من هذا الاتفاق (خصوصاً في القطاع المصرفي). ويبقى السؤال عن ما إذا كانت الحكومة اللبنانية ستدرس هذا الموضوع وتتّخذ قراراً واضحاً بخصوصه.
خسائر التعطيل
من الصعب الجواب بدقّة على هذا الأمر نظراً إلى تشابك التداعيات على كلّ القطاعات إن من ناحية التداعيات المباشرة أو غير المباشرة.
فالفلتان الأمني الحاصل من قتل في وسط الطريق وعمليات الخطف التي تقوم بها عصابات إرهابية والناتج عن ضعف القرار السياسي، له تداعيات مباشرة على قطاع السياحة والإستثمارات الأجنبية والداخلية كما وتداعيات غير مباشرة على صعيد القطاعات الداعمة. أيضاً وإذا أخذنا أزمة النفايات نرى أنّ غياب المنهجية العلمية أدّى إلى خلافات سياسية تُعطّل الملف وهذا الأمر له وقع سلبي على قطاع السياحة اللبنانية.
وإذا كان بإعتقادنا لا يوجد أيّ تأثير في السياح من مغتربين لبنانيين، إلّا أنّ التأثير في السياح الأجانب هائل لدرجة أنّ الصحف الأوروبية عنونت في صحفها «بيروت تتحوّل إلى مزبلة». وماذا يُقال عن القرارات التشغيلية الأخرى ومشاريع القوانين التي تنام في أجرار مجلس الوزراء!
وبحساب تقريبي، نجد أنّ تعطيل الحكومة إذا ما إستمرّ حتى أخر هذا العام، سيُكلّف الاقتصاد اللبناني بحدود الـ 0.5% من نموّه لتُصبح بالتالي توقعات النموّ ما بين 1 إلى 1.25% لهذا العام. وهذا الأمر سيكون بمثابة فشل ذريع للسياسة الاقتصادية من ناحية أنّ البنك الدولي توقّع للبنان نموّاً بنسبة 2.5% (مع الأخذ في الإعتبار تداعيات الأزمة السورية وأزمة النازحين السوريين) ولم نستطع تحقيق إلّا 1.25% مع تدهور مالي كبير ناتج عن التلكّوء في إتخاذ القرارات المالية.
الخطوات الواجب على الحكومة النظر فيها سريعاً…
أولاً: وقبل كلّ شيء يجب على الحكومة اللبنانية حلّ أزمة النفايات بسرعة لكي نتمكّن من الإستفادة ممّا بقي من فصل الصيف. هذا الأمر أساسي لقطاع السياحة كما ولقطاع المطاعم وغيرها لأنّ الإستمرار على هذا الوضع سيمنع السياح الأجانب من القدوم إلى لبنان كما أنّ المطاعم ستخفّ حركتها بحكم أنها منتجٌ كبير للنفايات وهي تعمد إلى رمي النفايات بالقرب من مكان وجودها وهذا الأمر سيؤدّي إلى كارثة مع توقعات بإرتفاع درجات الحرارة.
ثانياً: يتوجّب على الحكومة الإسراع في النظر في الشقّ المالي للدولة اللبنانية، لأنّ الوضع لم يعد يُحتمل وتراكم الدين العام سيؤدّي إلى صعوباتٍ مستقبَلية جمّة منها القضاء على قدرة المصارف على تمويل الاقتصاد اللبناني.
ثالثاً: لا يُمكن أن يستمرّ الفلتان الأمني على حاله حيث يُقتل المواطن في وسط الطريق وفي وضح النهار كأننا نعيش في بغداد. هذا الأمر هو العدوّ اللدود للإستثمارات ومن هذا المنطلق يتوجّب ضبط السلاح الموجود بين أيدي المواطنين وإعادة هيبة الدولة بدل مراقبة المواطن إذا ما كان يملك مثلثاً في سيارته أو لا.
رابعاً: يتوجب على الحكومة اللبنانية الإسراع ببتّ المراسيم التي لها علاقة بالحياة اليومية للمواطن خصوصاً الاقتصادية والإدارية لما لها من تأثير إيجابي في العجلة الاقتصادية. كما من الضروري الاتفاق على مراسيم النفط وإرسال مشاريع القوانين إلى مجلس النواب لكي يتمكّن هذا الأخير – في حال إجتمع – من إقرار هذه القوانين.
الإسراع في إنتخاب رئيس
ويبقى مفتاحُ الحلّ لتخطّي المشكلات التي تعصف بالإقتصاد اللبناني بلا منازع إنتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. فتعطيل الحكومة آتٍ من سببين: الأول التعينات والثاني صلاحيات رئاسة الجمهورية وفي كلا الحالَين نرى أنّ النتيجة هي تعطيل مجلس الوزراء وبالتالي تعطيل مجلس النواب (عدم إقرار مراسيم الإنعقاد). من هذا المُنطلق، لا يُمكن تخطي هذه الأزمة إلّا بإنتخاب رئيس للجمهورية لكي يتنفّس الاقتصاد اللبناني الصعداء.
في النهاية لا يسعنا القول إلّا إنّ مبدأ الحوار هو أساس في حلّ المشكلات وهذا ما يُسمّى في عالم الإقتصاد بالمفاواضات إذ يكفي النظر إلى ما حقّقه الأميركيون والإيرانيون لمعرفة أنّ الوسيلة الدبلوماسية تبقى الأساس لحلِّ أيّ مُشكلة.