بين سنة 2006 وسنة 2015، أنفقت الحكومات اللبنانية، من دون اي قانون للموازنة العامة، نحو 173 ألف و568 مليار ليرة (115.1 مليار دولار)، وجبت ايرادات ضريبية وغير ضريبية بقيمة 125 الف و418 مليار ليرة (83.2 مليار دولار). انفاق هذه المبالغ وجبايتها ينطويان على مخالفة فادحة للدستور والقوانين المرعية الاجراء، التي لا تترك مجالا للتصرّف بالمال العام من دون اجازة قانونية صادرة عن مجلس النواب. وعلى هذا الاساس جرى تقديم مراجعة امام مجلس شورى الدولة، الا ان الاخير قرر التخلي عن مسؤولياته تحت عنوان: «البلد كلها مش مزبوطة» وفيما كان «الرهان» على القضاء لتصويب مخالفة غياب قانون الموازنة، الذي يمسّ بـ «أساس» الدولة، أثبت القضاء عدم قدرته على تجاوز الحائط السياسي، بعدما ردّ مجلس شورى الدولة مراجعة الطعن بـ «قضية الموازنة»
أكثر من عقد مرّ على عدم اصدار قانون الموازنة العامة. آخر قانون صدر عن مجلس النواب للموازنة العامة (رقم 715/ الموازنة العامة والموازنات الملحقة) كان عام 2005، حينها بلغ الإنفاق 10 آلاف ليرة لبنانية.
هذا الرقم تضاعف تدريجيا ووصل الى 20 ألف و655 مليار ليرة عام 2015، بحسب وزارة المالية.
أنفقت الحكومة 173 ألف و568 مليار ليرة بين عامي 2006 و2015. وواصلت جباية الضرائب وغيرها ليبلغ مجموعها نحو 125 الف و418 مليار ليرة. في هذا الوقت ارتفع الدين العام الحكومي (المصرّح عنه رسميا) من 57 ألف و985 مليار ليرة عام 2005 الى 106 آلاف و10 مليار ليرة عام 2015، كذلك ارتفع العجز السنوي من ألفين و798 مليار الى 6 آلاف و79 مليار ليرة.
تجاوز حد السلطة
“كل ليرة جبتها الدولة منذ شباط 2006 كضرائب ورسوم لا سند قانونيا ودستوريا لها”، يقول الوزير السابق الياس سابا، الذي تقدّم الى جانب النائب غسان مخيبر ورئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة في 16/9/2014 لإبطال القرار المتخذ في مجلس الوزراء في 24/7/2014 والمتعلّق بالموافقة على تأمين الإعتمادات المطلوبة للرواتب والأجور وملحقاتها من احتياطي الموازنة العامة بجميع بنوده، “وسائر القرارات ذات الصلة بسبب تجاوز حد السلطة”، وطالبت المراجعة بـ”اعتماد الأصول الموجزة واتخاذ إجراء احترازي بالصيغة التي يراها مجلس شورى الدولة لتأمين الإشراف والرقابة المُسبقة على صحّة إنفاق الأموال”.
في المراجعة، شكا المُستدعون من الخيارات المالية التي تتخذها الدولة بصورة مُستمرة، والتي “تندرج في سياق تعليق نظام الدولة الدستوري واستبداله بنظام صفقات منفصلة ومتبادلة بين مجلس النواب ومجلس الوزراء (…) تؤدي آلية تمريرها الى الغاء أي قيد مُسبق أو أية رقابة لاحقة على استخدام المال العام”، وأشاروا الى المخالفات التي أمعنت فيها الحكومات المتعاقبة لأحكام المادتين 83 و86 (المتعلقة بالموازنة وحسابات الادارة المالية النهائية).
بعد نحو سنة وأربعة أشهر، أصدر مجلس شورى الدولة قراره بردّ المراجعة لـ “انتفاء صفة ومصلحة المُستدعين”، واستطرادا “رد طلب اتخاذ اجراء احترازي لعدم الصلاحية”.
القرار، كان مخيّبا للمستدعين كذلك لمن راهن على المجلس لتصويب “أساس الدولة وعمودها الفقري”، على حد تعبير سابا، على اعتبار أن “المهمة المحورية للدولة كي تقوم بوظائفها ومهماتها هي جباية وإنفاق الأموال”.
حماية المصلحة الخاصة لا العامة!
استند القرار الى أحكام المادة 106 من نظام مجلس شورى الدولة في تحديد مفهوم المصلحة في القضاء الإداري، التي تنص على أنه “لا يُقبل طلب الإبطال بسبب تجاوز حد السلطة إلا ممن يثبت أن له مصلحة شخصية مُباشرة مشروعة في إبطال القرار المطعون فيه”. وأردف المجلس تعليلا مفاده: “بما أن المصلحة الشخصية المذكورة تتحقّق عندما يؤدي القرار المشكو منه الى الحاق ضرر شخصي بالمُستدعي، بحيث يمس مركزه القانوني حصرا دون المساس بمركز سائر الأشخاص الآخرين، بمعنى أن يتمايز ضرر المُستدعي الشخصي عن الضرر العام الذي يُصيب كافة المواطنين”. اللافت ما يذكره القرار وهو أن “مراجعة الابطال ليست مُراجعة شعبية”، وفق ما ورد في معرض الحديث أن “اجتهاد القضاء الإداري استقرّ على القول بعدم توافر مصلحة المُكلّف من قبل السلطة المركزية الطعن بالقرارات الصادرة عن هذه السلطة بالاستناد الى ان مصلحته في ذلك تتلاقى مع المصلحة الشعبية، مؤكدا بذلك ان مراجعة الابطال ليست مراجعة شعبية”.
انتقدت “المُفكّرة القانونية” القرار، ورأت أن التعليل المذكور أعلاه، “يؤدي إلى إقصاء كمّ كبير من المصالح العامة من دائرة المصالح المحمية، على اعتبار أن المصلحة يجب أن تكون فردية وحصرية، وتالياً إلى إقفال الأبواب حيث يقتضي التوسّع في فتحها. فكأنما لا مصلحة “شخصية” لأحد بالطعن بها لأن للجميع مصلحة في ذلك، كما هو الأمر في قضية الموازنة”.
المُفارقة أن القرار والتعليل يخالف مُطالعة مفوّض الحكومة المُعاون القاضي ناجي سرحال الذي رأى أن “مراجعة الإبطال التي تهدف الى مراقبة مشروعية قرار إداري يجب التوّسع في قبولها لناحية الشروط الشكلية لكونها مُراجعة موضوعية تتعلّق بالانتظام العام ولكون القاضي الإداري هو المولج بتقدير مسألة تمسّ بالمصلحة الجماعية والوطنية”.
وأشار القاضي سرحال إلى أن هذا النوع من المُراجعات “يغلب عليه طابع الموضوعية، وقد توسّع الاجتهاد الفرنسي في قبول هذا النوع من المُراجعات، ولم يشترط أن تكون المصلحة خاصة ومتعلّقة على نحو مُباشر بالمُستدعي، بل قبل مراجعات الأفراد وذلك احترامًا للقاعدة بأن مُراجعات الأبطال يجب أن تُفتح بوجه الأفراد احتراما للقاعدة الدستورية الأساسية التي توليهم هذا الحق بولوج الطرق القانونية والقضائية”. وخلصت المُطالعة الى اعتبار هذا المجلس صالحا واعتبار الجهة المُستدعية تتمتّع بالصفة والأهلية اللازمتين للطعن. كذلك طلب القاضي سرحال “فتح المُحاكمة وإعادة الملف الى المقرر لإجراء المُقتضى”.
صادر: «لبلد كلها مش مزبوطة»
في اتصال مع “الأخبار”، يعلّق رئيس المجلس القاضي شكري صادر على القرار بالقول أن قرار المجلس “يتحدّث عن نفسه”، في اشارة الى عدم “الغوص” في تفاصيل القرار، لكن هناك من كان يعوّل ان المجلس كان أمام فرصة لحل معضلة معقّدة تحكم النظام القائم، هنا يُشير صادر الى مبدأ فصل السلطات، ويشرح: “إذا كانت السلطة التنفيذية لا تقوم بواجباتها، فالبرلمان هو المخوّل بمحاسبتها”. ويُضيف: “هم يطلبون من القضاء أن يحلّ مكان السلطة التنفيذية”. ولكن، ألا يستطيع القضاء أن “يتجرّأ” في اجتهاداته القانونية؟ “من أجل ماذا؟”، يتساءل صادر “لأصل الى اين؟ هذا الأمر ليس من اختصاصات المجلس”، ويقول: “لا يستطيع المجلس أن يكون حارسا قضائيا على الدولة”. ويختم: “البلد كلها مش مزبوطة”.
المجلس في خدمة الساسة
“واضح أنه عند أي استحقاق يطاول مخالفات فادحة الى هذا الحد، تتهرّب المحاكم بحجج قانونية مختلفة”، يعلّق النائب غسان مخيبرعلى قرار مجلس شورى الدولة، مُشيرا الى “أن القضاء يتوقف عند الحاجز السياسي ولا يتجاوزه”. ويُضيف: “القضاء لم يجرؤ على تطوير اجتهاده ليفرض على الدولة اجراءات تصوب ممارسات لا دستورية منتهجة”. ويُعطي مخيبر هنا مثالا عن قرار المجلس التمديد والذريعة التي سقطت مع إجراء الانتخابات البلدية.
إلا أن مسألة الموازنة “أهمّ بكثير من استحقاق الانتخابات”، بحسب الوزير سابا، الذي لم يُفاجأ بقرار المجلس: “مش متوقعين يكون غير هيك”. ويُضيف “إن كبار موظفي الدولة، من ضمنهم موظفي المجلس يأتون عبر قرار سياسي، وبالتالي لا يستطيعون مخالفة إرادة من أتوا بهم”. لكنه يستطرد: “قمنا بما نعتقد به أنه حق”، فيما يرى مخيبر أنه على الرغم من نماذج القرارات التي يُصدرها مجلس الشورى “يبقى اللجوء الى القضاء والمحاكم هو خطوة نحو تمكينه من قول كلمته، وبالتالي اعطاء المجال له لتصحيح الاخطاء المتخذة بقرار سياسي”.
كيف تنفق الدولة منذ العام 2006؟
على الرغم من أن الدستور ينص على اعتماد القاعدة الاثني عشرية لشهر واحد فقط هو كانون الثاني في حال تأخّر اقرار قانون الموازنة، الا ان الحكومة قررت ان هذه القاعدة تسري الى ما لا نهاية، بل اعتمدت ايضا تفسيرات اتاحت لها زيادة الانفاق والايرادات والدين العام من دون اي غطاء قانوني.
منذ عام 2006 حتى عام 2009، كانت الحكومة تُعلن أنها تُنفق على أساس مشاريع قوانين الموازنات التي تضعها، (والتي لم يدرسها مجلس النواب). بلغ الانفاق الإضافي عن قانون موازنة عام 2005 في هذه الفترة نحو 16590 مليار ليرة، أوما يعادل 11 مليار دولار.
بعد عام 2009 وحتى عام 2011 صار الانفاق يرتكز على سلف تمنحها الحكومة لنفسها وتمدد مهل سحبها إلى ما بعد الفترة القانونية ولا تسددها وفق القانون. أضافت الحكومة بذلك مخالفة دستورية على مخالفاتها، ولا سيما المادة 88 من الدستور التي تنص على أنه “لا يجوز عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه إنفاق من مال الخزانة إلا بموجب قانون”، كما مثّل الأمر مخالفة صريحة للمادة 112 من قانون المحاسبة العمومية التي تنص على أن “الوزير مسؤول شخصيا على امواله الخاصة عن كل نفقة يعقدها متجاوزا الاعتمادات المفتوحة لوزارته”.
عام 2012، أقر مجلس النواب القانون الرقم 238 الذي نص على فتح اعتماد إضافي لتغطية إنفاق عام 2012 بقيمة 9348 مليار و855 مليون ليرة. تلى ذلك قانونان آخران صدرا عام 2014: القانون الرقم 1 الذي ينص على فتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة بقيمة 626 مليارو607 مليون ليرة لتغطية العجز في الرواتب والأجور وملحقاتها لغاية نهاية عام 2014. والقانون الرقم 15 الذي يقضي بفتح اعتماد اضافي في الموازنة بقيمة 340 مليار ليرة. إضافة الى ما ورد، هناك القانون المعجل المكرر الرامي الى فتح اعتماد اضافي في الموازنة العامة لتغطية العجز في مختلف اعتمادات مشروع موازنة العام 2016 باستثناء الرواتب والاجور وملحقاتها. بلغت قيمته 4500 مليار ليرة، والقانون لفتح الاعتماد الاضافي المخصص للرواتب والاجور، ويبلغ 861 مليار ليرة. وبلغ مجموع قوانين فتح الإعتمادات المالية الإستثنائية 17 ألف و137 مليار ليرة.
بذلك انفقت الحكومة 173 الف مليار و568 مليار ليرة بين عامي 2006 و2015: 100 ألف مليار ليرة منها جرى الادعاء انها مغطاة بالقاعدة الإثني عشرية، 17 الف و137 مليار ليرة جرى الادعاء انها مغطاة بالقوانين الاستثنائية. ما يعني ان الانفاق الذي لا تمتلك الحكومة اي ادعاء بتغطيته يبلغ نحو 56 ألف و431 مليار ليرة، أو ما يُعادل 37.4 مليار دولار (من دون احتساب عام 2016).