صارت المهل عبئاً على القانون والنظام برمّته وثقيلة. ليست حتمية ومقيِّدة عندما يتأخر موعد الاستشارات النيابية الملزمة، وليست كذلك عند تمهّل الرئيس المكلف في تأليف الحكومة. الآن ليست مستعجلة في انتخاب رئيس مجلس النواب وهيئة مكتبه. الآن جميعهم متساوون
ما حدث في 31 تشرين الاول 2016 يكاد يكون نفسه ما يجري، او يبدو كأنه يجري، معكوساً. آنذاك انتخب المرشح الوحيد الرئيس ميشال عون لرئاسة الجمهورية من الدورة الرابعة للاقتراع، غير المسبوقة في تاريخ الرئاسة اللبنانية، يفتقر الى الاجماع او شبه الاجماع، على رأس معارضي انتخابه رئيس البرلمان نبيه برّي. الآن، على ابواب انتخاب رئيس للمجلس الجديد، يتصرّف حزب رئيس الجمهورية بطريقة مطابقة تقريباً. المرشح الشيعي الوحيد للرئاسة الثانية، دونما امكان الحؤول دون انتخابه، يُلوَّح له بفوزه من الدورة الثالثة من الاقتراع، بأصوات تفتقر الى الاجماع او شبه الاجماع الذي اعتاده في العقود الثلاثة المنصرمة. الادهى في ما يرافق انتخابات رئاسة المجلس هذه المرة، ان برّي في مواجهة خصمين احدهما يمسك بنصاب انعقاد جلسة الانتخاب هو حزب القوات اللبنانية، والآخر يمسك بنصاب الاكثرية المطلقة على الاقل للفوز هو التيار الوطني الحر. كلا الخصمين المسيحيين يضمر احدهما للآخر كرهاً ليس بينه واي منهما لبرّي، بيد انهما هذه المرة – خلافاً لما كانا عليه في انتخابات 2016 – وجهاً لوجه في مكان، ومتقاطعا المصالح في مكان آخر. ذلك عامل اضافي يجعل انتخابات رئاسة مجلس النواب وليس هيئة مكتب المجلس هي المرمى الفعلي للمواجهة.
ما بات عليه الاستحقاق الوشيك يشي بصعوبات شتى:
اولها، تبعاً للمواقف المعلنة، على الاقل حتى الآن، لا موعد لجلسة انتخاب رئيس للمجلس ونائب له وهيئة مكتبه قبل اليوم الاخير من مهلة 15 يوماً المحددة في النظام الداخلي للمجلس. ربما في اليوم الذي يسبق اليوم الاخير. ما خلا الثنائي الشيعي، تلفّ معظم الكتل الرئيسية مواقفها بالغموض والانتظار غير المفهوم: كتلة وليد جنبلاط متريثة. لم تقل ما يُفترض انه لا يحتاج الى ان يُقال وفي باب لزوم ما لا يلزم، وهو تأييد الاقتراع لبرّي الحليف التاريخي. مجرد الانتظار اياً تكن المبررات ملتبس. حزب القوات اللبنانية قال انه يحضر الجلسة ولا يصوّت لبرّي. لأنه معتاد على مهادنته في معرض الاعتقاد بأن حربه هي ضد حزب الله، يقدّم نصف حل. الا انه النصف المؤلم لرئيس المجلس، ان يظهر امامه ان لا نصاب لانعقاد الجلسة من دون حزب سمير جعجع. بدوره التيار الوطني الحر لم يقل بعد هل يحضر جلسة الانتخاب ام يقاطعها؟ ما قاله جازماً انه لن يقترع للرئيس الحالي للمجلس، ولم يتحدث كحزب القوات اللبنانية عن خيار آخر محتمل هو الاوراق البيض التي تبدو اهون الشرين: تعطي من يد وتأخذ من اخرى. تؤمن نصاب الانعقاد وتتبرأ من فوز المرشح. بيد ان كلا الفريقين المسيحيين يعرفان ان برّي، في نهاية المطاف، اياً تكن محاولة فرض الخناق، سيُنتخب بالغالبية المطلقة من الاصوات على الاقل.
ما تجتمع عليه الكتل الثلاث حتى الآن، انها تنظر الى جلسة الانتخاب جزئياً: قبل قرارها من المرشح الوحيد، تحاول الايحاء بامكان مناورتها بنصاب انعقاد الجلسة اولاً، وهو حضور 65 نائباً على الاقل. ليس في وسع الثنائي الشيعي وحلفائه تأمين هذا النصاب، بل سيبدو من المُسيء له فصل نصاب الانعقاد عن نصاب الانتخاب نظراً الى المكانة المرجعية لبرّي في العقود الثلاثة المنصرمة.
التيار الوطني الحر بين ترشيحيْ بوصعب للمقايضة وعطالله لتسجيل موقف
ثانيها، ليس خافياً ان انتخابات رئاسة المجلس هي آخر استحقاق دستوري جدي بين رئيسيْ الجمهورية والبرلمان. طوال ست سنوات من الولاية، بالكاد تُعد على اصابع اليد الواحدة جولات الهدنات ما بينهما. سوى ذلك كان الصراع ضارياً بين الرجلين منذ اليوم الاول، كما بين حزبيْهما، وفي بعض الاحيان ارتد على شارعيْهما. ولأنه يسبق انتخابات رئاسة الجمهورية، من الطبيعي ان تتصف المواجهة الحالية – ولم تعد خافية ولم تكن مرة خجولة – بتصفية حسابات مؤجلة.
قبل ايام قال رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل انه لا يقايض، ولا يربط انتخاب رئيس المجلس بانتخاب نائبه. مكمن المقايضة في مكان آخر: ما لم يسع رئيس الجمهورية وتياره الحصول عليه في السنوات الاخيرة، هو نفسه المرشح للمقايضة الآن. ابرز الشروط اثنان: الحصول على تعهد هو مثابة جوهرة التاج يقضي برفع الغطاء عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة واقالته من منصبه قبل مغادرة عون الرئاسة، وتأليف حكومة تتخلص من المواصفات التي طبعت الحكومتين الاخيرتين برئاسة الرئيسين حسان دياب ونجيب ميقاتي والعودة الى الحكومة السياسية المؤلفة من وزراء حزبيين يمارسون الحكم باسم احزابهم بالذات. تسمية نائب للرئيس من التيار الوطني الحر يصبح تفصيلاً في برنامج اوسع لما تبقى من الولاية. الاسم الشائع انه الياس بوصعب، والاسم الرديف جورج عطالله. الاول اقرب الى برّي بسبب علاقات عائلية تجمع بينهما، بينما الثاني يراد ان يكون ترشيحه للمواجهة دونما التحقق من فوزه والاكتفاء بتسجيل موقف.
شأن تيقن حزب القوات اللبنانية من ان برّي عائد حتماً الى منصبه بالاكثرية اللائقة، للتيار الوطني الحر يقين آخر هو ان في وسع حزب الله خفض توقعاته تبعاً للضوابط التي نظّم من خلالها علاقته بالحليفين العدوين، غير المستغنى عن اي منهما، بيد ان ترتيبهما عنده عامودي لا كأسنان المشط.
ثالثها، ان حزب الله الذي لم يستطع عام 2016 اقناع برّي بتأييد انتخاب عون، يجد نفسه اليوم في الارباك نفسه، وهو عدم مقدرته على اقناع حليفه رئيس التيار الوطني الحر بانتخاب مرشحه الوحيد لرئاسة المجلس بلا ثمن. في حصيلة الانتخابات النيابية الاخيرة، نجح حزب الله وحركة امل في الامساك بفيتو الميثاقية من خلال قبضهما على المقاعد الشيعية الـ27. كلفة هذا الامتياز ان اوصلته الى الخط الكثير الاحمرار، وهو انه خسر اجماع اللبنانيين على سلاحه، وجزءاً كبيراً من الغطاء المسيحي، وخسر حلفاء له من غير المسيحيين لم يسعه حمايتهم في الانتخابات، ناهيك بوصول التذمر الى شارعه. اولى العلامات تلك ان تخسر لائحة تحالف الثنائي في دوائر الجنوب ثلاثة مقاعد مارونية ودرزية وارثوذكسية وهي سابقة في ذاتها ليست قليلة الاثر، وان يخسر مقعداً رابعاً ارثوذكسياً معوَّلاً عليه في لائحة البقاع الغربي ـ راشيا، ومقعداً خامساً درزياً في عاليه والشوف. فوق ذلك كله يخسر الغالبية المطلقة، ويجد نفسه امام خصوم إما ظنَّهم وهميين كالمجتمع المدني او استخف بهم كالقوات اللبنانية.