IMLebanon

دول ومشاريع دول بين الشرعية والشريعة

خلافاً للرواية الشائعة والمتخيلة، فإن مارك سايكس البريطاني وزميله الفرنسي جورج بيكو لم يؤسسا دولاً في 1916، ولم «يقسّما» وطناً جمعته الوحدة القومية ليقيموا دولاً على حساب دولة أو دول لم تكن موجودة في تلك الحقبة. إلا أنهما رسما حدوداً لخريطة مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية في المنطقة في حال انتهت الحرب لصالحهما (وكان يفترض أن تشاركهما روسيا التي فضحت أمر الاتفاقية السرية وانسحبت من الحرب الكونية بعد الثورة البلشفية). انتصر الحلفاء وانهارت السلطنة وأفرزت لاحقا دولة تركيا الحديثة بقيادة مصطفى كمال (اتاتورك). وخلال هذه المرحلة الانتقالية تباينت التوجهات بين فرنسا وبريطانيا، فأدخلت بعض التعديلات على اتفاقية سايكس ـ بيكو، خصوصاً في مناطق أصبحت لاحقاً من دولتي سوريا والعراق.

أما الدول فمسار انشائها خضع لاعتبارات أخرى، محلية وخارجية، ولم يكن العامل المحلي أقل أهمية من سياسات لندن وباريس. الشريف حسين الهاشمي سعى إلى انشاء كيان لدولة عربية استناداً إلى وعود بريطانية جاءت في مراسلات شهيرة سمتها الغموض البنّاء. الا ان التعويض المعنوي كان من نصيب نجليه، فأصبح فيصل ملكاً في العراق وعبد الله ملكاً في الأردن. في الجزيرة العربية أخذت المواجهة مداها بين الهاشميين وآل سعود الذين اقاموا دولتهم في مطلع الثلاثينيات، وللطرفين المتنازعين علاقات وثيقة مع بريطانيا. في العراق وقع الصدام بين بريطانيا، الداعمة للهاشميين، ومعارضيهم لأسباب مختلفة، الأكراد في شمال البلاد، والشيعة في جنوبها. وفي سوريا حُسمت المواجهة بين فرنسا ورافضي الانتداب في معركة ميسلون. في لبنان مسار مغاير، فالدولة قامت على أساس نواة كيان قائم ومعترف به دولياً، متصرفية جبل لبنان، وبسبب تلاقي المصالح بين بعض القادة الموارنة وفرنسا. في مصر وقع الصدام بين بريطانيا والأطراف المطالبة بالاستقلال بقيادة حزب الوفد ولم يكن حول الدولة وحدودها. دول الخليج نالت استقلالها من بريطانيا بدءاً بالكويت في مطلع الستينيات. مواجهات مختلفة في أبعادها التاريخية والسياسية حصلت في دول المغرب العربي، أبرزها حرب تحرير الجزائر باهظة الكلفة من الاستعمار الفرنسي التي انتهت في مطلع الستينيات بعدما اهتزت فرنسا واستطاع الجنرال ديغول أن يعيد اللحمة إلى شعبها وجيشها.

بموازاة الدول، مشاريع دول انطلقت في عشرينيات القرن العشرين، وفي ظروف دولية وإقليمية متباينة. مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين بدأ تنفيذه عملياً مع الانتداب البريطاني التزاما «بوعد بلفور» الصادر في 1917. لكن دولة إسرائيل تأسست مع حرب 1948 ونالت اعترافا دولياً بسرعة البرق. مشروع دولة أخرى في المنطقة لم يتحقق سعى إليه الأكراد في شمال العراق.

في الحقبة المعاصرة، ثلاث حالات شكلت بيئات حاضنة لدول جديدة لم تر النور: لبنان خلال سنوات الحرب، العراق منذ حرب 2003، وسوريا الآن، في لبنان برزت مقولة التقسيم في زمن الحرب وتم تداولها سياسياً واعلامياً ولم تصل إلى المنتديات الدولية، كما برزت مطالبات بنظام فدرالي في الوسط المسيحي، إلا انها كانت تمنيات وطروحات لا سند سياسياً او قانونياً لها، خصوصاً على المستوى الدولي. في العراق جاء النظام الفدرالي بديلاً من التقسيم وبدعم دولي، أميركي تحديداً، والعراق اليوم دولة واحدة وان مفككة وضعيفة. في سوريا حروب بالجملة تفتح الشهية لمخيلة المنظرين والطامحين لتركيب الدول وتفكيكها في المقاهي والصالونات. لكن واقعياً، سوريا، ليست مشروع دول جديدة، لا تمسكا بوحدتها بل لأن لا مصلحة ولا إرادة لأي من الدول الكبرى لإدارة العملية الانتقالية وتوظيف الإمكانات اللازمة لحماية نتائجها. دول حوار سوريا، لا سيما تركيا وإسرائيل، لا مصلحة لهما بدول جديدة محاذية. وإدارة الرئيس أوباما غير متحمسة لخيارات التفتيت المكلفة، وهي تعتمد سياسات متناقضة، تحركها ردود الفعل على أفعال الغير.

الحالة الوحيدة لدولة جديدة نشأت في المنطقة هي «جمهورية جنوب السودان» في 2011، التي قامت برعاية دولية، أميركية تحديداً، وعلى أساس خريطة طريق مفصلة، وهي الآن دولة متعثرة وفي نزاع مع السودان حول الحدود والثروة النفطية. وحتى في أوروبا لم تنشأ دول جديدة الا بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط المنظومة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. دول البلقان كانت الأكثر جهوزية للتفكك. حصل الانفصال سلميا في تشيكوسلوفاكيا بين الشعبين التشيكي والسلوفاكي في 1992، بينما شهدت يوغوسلافيا حروبا متتالية عكست الانقسامات التاريخية بين مكونات يوغوسلافيا الستة قبل قيام الدولة وجامعها نظام الحكم الشيوعي بقيادة تيتو الذي رحل في 1980.

ثمة مشروع دولة من نوع آخر في المنطقة، دولة الخلافة الإسلامية. وهي نقيض شرعية الدولة الوطنية والنظام العالمي القائم. دولة داعش تستمد شرعيتها من الشريعة وليس من الشرعية الدولية التي يصنعها البشر. انها حالة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. فبينما الأطراف جميعها تتشارك في هدف التصدي لداعش ومثيلاته، الا انها تختلف في بناء التحالفات للمواجهة المطلوبة. فالأطراف القادرة على التصدي، تحديداً سوريا وإيران، لا تلقى الدعم من واشنطن. طرف آخر قادر ان يتصدى، تركيا، الا ان انقرة اردوغان هي الأكثر تعاطفا مع الجماعات المتطرفة. بين القدرة واللاقرار تضيع الإرادة لوضع حد لتمدد التنظيمات التكفيرية. ففي حين ان واشنطن لم تحسب لمفاعيل غزوها العراق أو إطاحة نظام القذافي في ليبيا، فإنها تحسب الآن ألف حساب، بينما داعش لا حساب يؤديه سوى «لربه» وتطبيقا «لشرعه».

لكن بمعزل عن دولة الخلافة الداعشية، فإن قيام دول جديدة بالمعنى المتعارف عليه في إطار الشرعية الدولية المعمول بها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مسألة لا تشغل بال الدول الكبرى حيث لا مصالح حيوية لها تستوجب حمايتها عبر استيلاد دول قد تكون عبئا عليها وعلى دول الجوار. وفي حال ورود هذا الخيار نظريا، فإن الظروف الداخلية والخارجية غير مؤاتية لتحقيقه. وإذا وجد «سايكس» جديد فلا «بيكو» في الأفق… ولا حلول ممكنة في زمن تهاوي الدول والأنظمة وتفكك المجتمعات.