IMLebanon

البلد الـ136 يموِّل الفساد بالضرائب

طوني عيسى

لم يتوقّف المجلس النيابي عند التقرير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية حول مرتبة لبنان المتقدّمة في لائحة الفساد العالمية، مع أنّ «خطاب القسَم» وعَد بالإصلاح. وبدلاً من المسارعة إلى تشكيل «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد»، ذهب المجلس في الاتجاه المعاكس. ترك الفساد حيّاً يُرزَق، ووفّر له أموالاً إضافية… من الضرائب!

قبل العام 2005، استفاد السوريون من وضع أيديهم على لبنان. واشتغلت «الماكينة» السورية، دولةً وأفراداً، لامتصاص طاقات لبنان وثرواته. وهذا الأمر يعرفه كثيرون بالخطوط العريضة وبالتفصيل. وكان طبيعياً، في المرحلة السورية، أن يزدهر «الفساد التاريخي» اللبناني إلى الحدّ الأقصى. فهذا الأمر يحصل غالباً في البلدان المغلوبة على أمرها.

ولكن، بعد العام 2005، استَطْيَبَت غالبية الطاقم السياسي اللبناني طعم الفساد- وهي تتذوَّقه أساساً- ومضت في استثمار ما زرعه السوريون. فالتحالف الذي أدار البلد بعد خروج السوريين لم يكن نفعياً في السياسة فحسب، بل في الاستيلاء على الدولة ومواردها ككل.

في العام 2006، صدر تقرير الشفافية الدولية ليضع لبنان في المرتبة 63 بين 180 دولة. وفي العام التالي، «ارتقى» لبنان إلى المرتبة 89. وبعد 10 سنوات، جاء تقرير 2016، الصادر قبل أسابيع، ليضع لبنان في المرتبة 136 بين 176 دولة.

وهكذا، يبتعد لبنان عن الدانمارك ويلتحق بالصومال… آخر اللائحة، مع الإشارة إلى أنّ إسرائيل تحلّ في أدنى معدّلات الفساد في الشرق الأوسط. وقد يشكّك البعض في صدقيّة هذا التقرير، لغايات معينة، لكنّ إدراك مؤشرات الفساد لا يستلزم كثيراً من الجهد عادة.

المسألة لها تردّدات خطرة جداً على لبنان الساعي إلى استعادة صورته كدولة، مع انطلاق عهد يرفع شعار الإصلاح، وفيما المجتمع الدولي يضغط على لبنان لإقرار مزيد من التشريعات المتعلقة بالشفافية والنزاهة ومنع التهريب والتزوير والتهرُّب الضريبي.

فالقطاعات كلها، ولا سيما منها القطاع المصرفي، تتأثّر بصورة الفساد. ولا يمكن لبنان أن يطمح للحصول على دعم دولي حقيقي ما لم تطمئنّ الدول الداعمة إلى أنّ المؤسسات هي التي ستُدير العملية بشفافية. والأمثلة قائمة.

الأكلاف المقدَّرة للفساد في لبنان، سنوياً، وفق بعض الخبراء، تتجاوز الأربعة مليارات دولار. لكنّ وزير الاقتصاد السابق آلان حكيم يقول، على حسابه في «تويتر»: الفساد يكلّف الدولة 10 مليارات دولار سنوياً، مناصفة بين خسائر مباشرة بالأموال التي كان مفترَضاً أن تدخل خزينة الدولة وتمّ تهريبها، وخسائر غير مباشرة ناجمة من إضاعة الفرص بطرق غير شرعية.

هذه الأرقام تعني أنّ القضاء على الفساد هو ثروة لبنانية وباب مؤكّد لإنهاء أزماته المالية والاقتصادية أكثر من استخراج الغاز والنفط. كما أنّ الشكوى من عدم وجود التمويل الكافي لسلسلة الرتب والرواتب ليست في محلِّها، لأنّ القضاء على الفساد يتكفّل بها وبتحقيق كثير من المطالب الاجتماعية الأخرى.

وللإيضاح، إنّ سياسة التوظيف الانتفاعي في المؤسسات العامة، من مال الناس، ضاعفت أكلاف الأجور بين العامين 2008 و2017. ويمكن احتساب التهرُّب الضريبي، لدى النافذين خصوصاً، بأكثر من 4 مليارات دولار.

فلسفة الإدارة في لبنان حالياً هي إياها التي قامت- غالباً- منذ الاستقلال، ما خلا فترات قصيرة مضيئة، كعهد الرئيس فؤاد شهاب. ومع أنّ القريبين من الرئيس ميشال عون يقولون إنّ حلمه هو أن يكون شهاباً آخر، فإنّ اتجاه البلد لا يوحي بأنه ذاهب في هذا الاتجاه.

فالمجلس النيابي ذهب إلى الضرائب لتمويل العجز، متجاهلاً مرة أخرى حقوق الفئات المتوسطة والفقيرة. ولم يتوقف عند الدعوات التي صدرت مراراً عن الجمعيات الحقوقية اللبنانية وهيئات المجتمع المدني، التي ناشدته إقرار الهيئة العليا لمكافحة الفساد.

فهذه الهيئة يمكن أن تكون في يدها عملية التنقيب عن مواضع الفساد في الدولة، وأن تمتلك صلاحيات حقيقية تخوِّلها التصدّي للحالات الشاذة، بدعم مؤسسات القضاء والرقابة والمجلس النيابي نفسه. وإضافة إلى ذلك، يمكن للمجلس النيابي إقرار قانون حماية كاشفي الفساد، وقانون الحكومة الإلكترونية، وتفعيل المحاسبة والمساءلة.

ويعتقد الناشطون في المجال الحقوقي أنّ إهمال المجلس النيابي لدعوات الإصلاح غير مستغربة. فالطاقم السياسي الذي يقود لبنان في نفق الفساد هو نفسه المجلس النيابي، ومن البديهي أن يحاول حماية نفسه.

إذاً، المسألة تعود إلى المراوحة في الدائرة إياها: كيف السبيل إلى ضخّ دمٍ جديد في المجلس النيابي، من غير الطاقم النفعي الذي يتحكّم اليوم بالبلد، ما يبعث الأمل في إحياء المؤسسات الرقابية وهيئات المحاسبة وإنعاش القضاء، وإنقاذ هذه الهيئات من التخويف؟

تعود المسألة إلى العمق، أي إلى قانون الانتخاب. وهنا أيضاً يظهر لماذا لا يُراد إنجاز قانون عادلٍ وقادر على إحداث تغييرات حقيقية في الطاقم السياسي الحاكم. إنّ مجيء فئات جديدة من خارج النادي التقليدي من شأنه أن يسحب البساط من تحت أرجُل الفئة المتنفعة التي تستثمر المؤسسات والمرافق… والطوائف أيضاً.

ولذلك، لا يبدو مستغرَباً أن تقف هذه الفئات حجر عثرة أمام قانون انتخاب تغييري. فالمشكلة تبقى هنا: «إذا فسَدَ الملح، فبماذا يُملَّح»؟