IMLebanon

دولة  

 

 

أبناؤنا لا يصدَّقون أنه كان في لبنان دولة. وكانت لهذه الدولة مقومّات الدولة. وكانت لها حدود مصانة. وقوى عسكرية مهابة. وقوى أمنية فاعلة.

 

وكانت الدولة موجودة في كل مكان، بمهابتها وليس بعصاها الغليظة وحسب. وكانت ليرتها عملة صعبة مثل الدولار والجنيه الاسترليني والفرنك الفرنسي والمارك الألماني.

 

ذات رحلة الى ألمانيا أعوزني المزيد من «الماركات» بعدما أنفقت، مبكراً، ما كنت قد تزوّدت به في بيروت. ولم أحمل هماً، ببساطة وعفوية توجهت، في برلين (الغربية – آنذاك) الى أول مصرف طالعني فقدّمت بضع ورقات من العملة اللبنانية من فئة المئة ليرة، وكانت أكبر ورقة عملة لبنانية في حينه، فصرفتها لي الموظفة من دون أي سؤال أو تردد، وتلقيتُ ماركين اثنين مقابل كل ليرة لبنانية.

 

ويومها أيضاً كان الفرنك الفرنسي بنصف ليرة. أي إنه في أوروبا الغربية استقبل المصرف العملة اللبنانية كما يستقبل العملات العالمية الصعبة. واليوم ليرتنا لا تُقبل في أي بلدٍ من بلدان العالم بما فيها سوريا.

 

في سياق موازٍ أذكر أنه في حرب السنتين تراجعت الليرة اللبنانية قرشين أو قرشين ونصف القرش أمام الدولار الأميركي، فأجرى رئيس الجمهورية سليمان فرنجية اتصالاً سريعاً برئيس الحكومة، رشيد كرامي (رحمهما الله) ودعاه الى «الاستنفار» لمعالجة الأمر مع وزير المال ومن يلزم لإعادة «تصويب» الوضع. وبالفعل اتخذت تدابير عاجلة حتى أُبقي على الدولار في حدوده فلا يتجاوزها ولو بنصف قرش بالرغم من أنّ البلد كان يعاني حرباً مدمّرة.

 

 

الى ذلك، حتى بدء العمل بدستور الطائف، وتكراراً: بالرغم من الحرب، لم يكن لبنان واقعاً في الديون. والأكثر تشاؤماً يقول إنّ قيمة الدين  العام لم تتجاوز ملياراً ونصف مليار دولار (معظمها  دين داخلي بالليرة اللبنانية)  والبعض يجزم بأن الرقم مبالغ فيه، إذ إنّ الدين كان تحت المليار دولار حداً أقصى.

 

في تلك الحقبة كانت صفيحة البنزين بسبع ليرات لبنانية… اجل! فقط سبع ليرات لا غير. وعندما تقرر زيادة ربع ليرة عليها أقيمت الدنيا ولم تقعد.

 

وفي ذلك الزمان الجميل (الجميل بالرغم من كل شيء) كان الموظف الذي يتقاضى مرتباً شهرياً قدره ثلاثماية ليرة لبنانية قادراً على استئجار دار سكن وأن يفرشه بالتقسيط المريح!

 

أحد المسنين روى على مسامعي عن الازدهار في عهد الرئيس المرحوم كميل شمعون أنه كان متوجهاً من ضيعتنا الى «المدينة»، (المقصود طرابلس) وكان يحمل بضع ورقات من فئة الخمس ليرات، فالتقى «بائع نمورة» يرفع صدر الحلوى على رأسه ويتجه به نحو القرية ليبيع بضاعته من الأهالي ويعود الى طرابلس والغلّة كلها لن تتجاوز بضع ليرات، فقال سألت البائع هل لديه ليرات ليصرف لي خمس ليرات؟ فأجابه البائع: أصرف لك مئة ليرة إذا أردت!

 

والمئة ليرة كانت مبلغاً «حرزاناً» في حينه، وأن يتمكن بائع جوّال على رجليه من أن تحويها محفظته إنما هو دليل على الرحرحة و… الازدهار!