يشعر اللبنانيّون أنّهم عادوا فجأة إلى زمن الحرب، مشهد «مكبّات الزبالة» مستعاد من زمن الحرب أيام لم يكن هناك رقيب ولا حسيب على عمّال النظافة ولا إضراباتهم، هذا مشهد مستعاد من بيروت الثمانينات!!
لا يوجد دولة في العالم تأخذ من شعبها ولا تعطيه كلبنان، هذه مأساة متكرّرة، يدفع المواطن في بلاد العالم الضرائب ويأخذ مقابلها تعليم مجاني وطبابة مجانيّة وأشياء أخرى كثيرة، في لبنان ندفع ولا نأخذ شيئاً، ويحدث في لبنان أن تجتهد الدولة لإقرار قانون سير بغرامات باهظة لضبط فلتان الشوارع، ومع هذا يتحوّل فجأة هذا الفلتان إلى حال «إجراميّة» بكل ما للكلمة من معنى، مجرم متوحش يهاجم مواطناً لأنّه لم يتمكّن من تجاوزه فيقتله بهمجية أمام عيون المارة، لنكتشف أننا صرنا شعباً بلا نخوة ولا مروءة نتفرج بدم بارد على جريمة قتل، ونصوّرها بكاميرات الهواتف النقالة، كان ينقص المشهد فقط صور «Selfie والقتيل خلفي»!!
لم نحتج أكثر من أسبوع واحد لنكتشف حقيقة أنّنا شعب الطعن بـ»السكاكين»، ثمة حلاق رجالي في إحدى المناطق الخاضعة لفلتان «سرايا المقاومة» يصفّ السكاكين في واجهة محلّه من كلّ الأنواع وسواها من أدوات القتل والإيذاء، هل يسمح القانون بعرض وبيع آلات القتل هذه من دون رقيب ولا حسيب، هل فُهمت الآن موضة القتل بالسكاكين، «الزّعرنة» تتصدّر المشهد في السياسة، في السلوك الاجتماعي، في الخطف مقابل فدية، في خطف الأجانب، في إطلاق النار وقذائف الـ 7 B تشييعاً وابتهاجاً يقضي فيها الأبرياء من النساء والأطفال، ثمّة مجرى تتقونن فيه هذه الحال المزرية التي وصلنا إليها!!
في دولة مثل لبنان، توقع الحكومة عام 1994 عقداً بالتراضي مع مجلس الانماء والإعمار لكنس وجمع النفايات ومعالجتها وطمرها، ضمن ب?روت و225 بلدة وقر?ة في محافظة جبل لبنان، وفي بلد مثل لبنان فقط يملك الشركتين «سوكلين» و»سوكومي» بصورة أساسية رجل واحد وفي البداية كانت قيمة العقد تبلغ 4 ملايين دولار سنوياً، إلا أنها ارتفعت بعد سنتين على نحو مفاجئ لتصبح 102 مليون دولار اعتباراً من عام 1996، وفي بلد مثل لبنان فقط، ترتفع قيمة عقود الكنس وجمع النفايات ارتفعت إلى 43.5 مليون دولار. وقد بلغت قيمة عقد تشغيل وص?انة مراكز معالجة النفا?ات المنزل?ة الصلبة نحو 42.2 مليون دولار، فيما بلغت كلفة الفرز 26.34 دولاراً للطن الواحد، وكلفة الكبس 15.73 دولاراً للطنّ، وكلفة التغليف 12.9 دولاراً، وكلفة التسبيخ 25.05 دولاراً. أما كلفة نقل المواد العضوية من مراكز الفرز إلى مراكز التسبيخ فبلغت 5.55 دولارات للطن. وقد بلغت قيمة عقد الطمر الصحي لعام 2009 نحو 39.3 مليون دولار.
وفي بلد مثل لبنان فقط، تتجاهل الدولة طوال عشرين عاماً إنشاء مصنع أو اثنين بدعم من القروض الدولية الميسرة لتدوير «الزبالة اللبنانيّة»، وفي بلد مثل لبنان فقط يُعطل مفاعيل مؤتمرات اقتصادية لمصلحة لبنان ويضرب بها عرض الحائط من باريس 1 و2 و3، وفي بلد مثل لبنان فقط يُعطّل مجلس النواب، ويُعطّل عمل مجلس الوزراء وجدول أعماله لأنّ رجلاً واحداً يريد أن يُعيّن صهره على رأس قيادة الجيش ظنّاً منه أنّ بهذا التعيين سيستعيد السيطرة على الجيش ويُعيد عقارب الزمن إلى الوراء إلى نهاية الثمانينات، وفي بلد مثل لبنان فقط يموت الشعب ولا يموت، ويموت لبنان ولا يموت طوال أربعين عاماً، وفي بلد مثل لبنان فقط «يلعن» الشعب حياته في هذا البلد مئات المرات يومياً، ويردّد آلاف المرات «بلد زبالة»، ومع هذا لا نصل إلى حال الاستسلام التي يريد كثيرون أن نصل إليها…
في أيام الحرب تدبّر اللبنانيّون أمورهم من دون الدولة وكانت الحاجة أم الإختراع، ما يحتاجونه هذا اللحظة إلى مجتمعٍ مدني فاعل، لا مجتمع مدني يتجمّع منه خمسون أو مئة ليهتفوا «حكومة زبالة»، لا.. هذا تصرّف العاجز، لأنّ هذه الحكومة فيها كثير من خيرة رجالات لبنان، وفيها أيضاً من يحتاج أن يجمع الشعب اللبناني زبالة شوارعه وينقلها ليرميها أمام باب من حوّل شوارعه إلى «مكبّات زبالة»!!