بعد أقل من ساعتين على إعلان رجب طيب إردوغان٬ ورئيس وزرائه بن علي يلدريم٬ عن فشل المحاولة الانقلابية٬ وأنها «كانت محاولة غبية قامت بها مجموعة صغيرة متمردة من الجيش»٬ كانت موجة اعتقالات كبيرة قد بدأت في صفوف العسكريين ورجال القضاء٬ فيما بدا ترجمة جاهزة وفورية لقول إردوغان «إن الانقلاب الفاشل هبة من الله لنا لنواصل تطهير كل مؤسسات الدولة من الفيروس.. هذا الفيروس ويا للأسف مثل سرطان انتشر في الدولة برمتها».
الحديث عن «مواصلة» التطهير يعني أن هذه العملية التطهيرية كانت قائمة٬ ووجدت الآن مبررات قوية لتزخيمها وتوسيعها لتشمل الدولة برمتها٬ حيث يعشش «فيروس الكيان الموازي»٬ وهو الاسم الذي يطلقه أنصار إردوغان على حركة «حزمت»٬ وتعني خدمة٬ التي أنشأها فتح الله غولن٬ وهي عبارة عن شبكة ضخمة من المؤسسات الموجودة في تركيا ومائة بلد آخر٬ وتقدم نفسها على أنها تدعو إلى إسلام إنساني مستلهمة الفكر الصوفي.
غولن خصم مخيف لإردوغان خشية أن ينتزع منه السلطة لأن له ملايين الأنصار في كل مفاصل الدولة التركية٬ لكن المفارقة أنه كان حليفه السابق في محاربة الأتاتوركية٬ وقد طرده الجيش عام ٬2013 وهو يعيش منذ ذلك الحين في الولايات المتحدة!
الوقائع من فجر السبت إلى ظهر الاثنين كانت متناقضة ومثيرة: «محاولة انقلاب غبية قامت بها مجموعة صغيرة متمردة من الجيش»٬ لكن حركة الاعتقالات بعد أقل من 24 ساعة شملت أكثر من عشرين ألًفا من العسكريين٬ بينهم 103 جنرالات وأميرالات وخمسة من مستشاري إردوغان العسكريين٬ إضافة إلى ثلاثة آلاف من القضاة والمّدعين العامين٬ وثلاثين من حكام المقاطعات٬ وتسعة آلاف من رجال الشرطة٬ وسبعة آلاف من وزارة الداخلية.
بدا أنها مقصلة مفتوحة ضد كل المعارضين٬ في سياق ترجمة محمومة لكلام إردوغان عن الخلاص من الفيروس المنتشر في كل الدولة٬ وكانت هذه الاعتقالات ولا تزال٬ وستستمر على ما يبدو كعمليةِحلاقة شاملة. وقد تأكد هذا الأمر مساء الثلاثاء٬ بعدما جرى توقيف عشرين ألًفا من وزارة التربية والتعليم العالي٬ بينهم عمداء ورؤساء وموظفون.
صباح الأربعاء٬ تجاوز عدد الموقوفين الخمسين ألًفا من رجال الجيش والاستخبارات والأمن والقضاء والتعليم والمصارف والمؤسسة الدينية٬ وحتى الطاقة. وأعلن «معهد واشنطن» أنه جرى عزل القائد العام للدرك٬ وهو الجهاز الذي أعّده إردوغان كرديف مساعد لمواجهة أي تحرك للجيش٬ وأن 125 جنرالاً من أسلحة الجو والبر والبحر قد تم اعتقالهم!
هكذا٬ لم يعد السؤال: لماذا الحديث عن «مجموعة صغيرة متمردة»؟ فقد وصلت موسى الحلاقة إلى وزارة التربية٬ وإلى القضاء٬ وإلى وزارتي المال والطاقة٬ وإلى داخل مكتب المستشارين العسكريين عند إردوغان٬ وبات من الضروري العودة إلى ما أعلنه المسؤول عن توسعة الاتحاد الأوروبي يوهانس هان٬ مساء الأحد الماضي٬ بعد ساعات من بداية حملة التطهير٬ عن أن لديه انطباًعا بأن الحكومة التركية أعّدت سلًفا قوائم الاعتقالات٬ حتى قبل وقوع الانقلاب: «كل شيء كانُمعًدا سلًفا.. القوائم جاهزة٬ مما يؤّكد أنها أعدت مسبًقا للاستخدام.. ونحن قلقون جًدا»!
الغريب أنه بعدما تعالت الأصوات في العواصم الأوروبية مّتهمة إردوغان بإعداد هذه القوائم٬ وهو ما أكدته عملًيا سرعة واّتساع الاعتقالات٬ كان المفاجئ أن إبراهيم كالين٬ المتحدث الرسمي باسم إردوغان٬ اعترف صراحة بذلك٬ عندما قال٬ ليل الثلاثاء الماضي: «إن بعض القادة والجنرالات الموقوفين كانوا يدركون أنهم سُيقالون خلال اجتماع المجلس العسكري المقبل٬ ويعلمون أنهم على اللائحة٬ وقد رأوا بطريقة ما في الانقلاب الوسيلة الأخيرة للحيلولة دون ذلك»!
وإذا كان هذا يشكل أول اعتراف رسمي بوجود قوائم اعتقالات واسعة وشاملة وضعت مسبًقا لتطهير الأجهزة العسكرية وكل مؤسسات الدولة٬ من الذين يعارضون جنوح إردوغان إلى حكم تسلطي برزت ملامحه منذ اشتباكات ساحة تقسيم٬ وقمع الشباب والمجتمع المدني٬ عام ٬2013 فإن من شأن ذلك أن يطرح أسئلة كثيرة حول ما جرى٬ فجر السبت الماضي٬ خصوًصا في ظل المعلومات التي تحدثت عن أن رئيس جهاز الاستخبارات التركي هاكان فيدان٬ الملقب بـ«الثعلب»٬ قد عرف بالعملية الانقلابية قبل سبع ساعات من وقوعها (كانت ستجري في الرابعة فجًرا٬ وقُدم موعدها إلى التاسعة مساء)٬ لكن هذا يقود إلى أسئلة أكثر حساسية:
لماذا لم يجِر وقف المحاولة٬ ومنع الفوضى والتداعيات التي خلفتها؟ وهل كان المطلوب تركها تبدأ ثم يتم التصدي لها٬ بما يبرر بدء عملية التطهير الشاملة التي تجري الآن؟
إبراهيم كالين لم يكشف شيًئا جديًدا٬ بل أكد رواية وسائل الإعلام التركية التيُنشرت صباح السبت٬ بعد ساعات على العملية٬ وفيها أن عدًدا كبيًرا من قادة الانقلاب والمشاركين فيه كان سيتم اعتقالهم يوم السبت٬ بناء على قرار قضائي وافق عليه ووقعه رئيس الأركان٬ فاستعجل الانقلابيون خطتهم٬ ونفذوا «الخطة ب» بتقديم موعد التحرك٬ ولهذا اعتقلوا رئيس الأركان٬ وليس من عادة الجيوش في الانقلابات أن تعتقل الضباط٬ بل المسؤولين السياسيين!
ليس من الواضح إلى أين سيصل٬ ومتى ستتوقف مقصلة التطهير الذي ينفذه إردوغان٬ توصلاً إلى ما عجز عنه مثلاً قبل عشرين عاًما تقريًبا سلفه توركوت أوزال٬ الذي أراد مثله أن يجعل الحكم في تركيا رئاسًيا٬ لكنه مات مسموًما على يد العسكريين٬ في 17 أبريل (نيسان) من عام ٬1993 ولا من الواضح إلى أين ستفضي التداعيات بإردوغان المنخرط الآن في خمس حروب:
1 حرب تطهير الجيش٬ واستئصال المعارضة الواسعة من الدولة بكل مؤسساتها٬ ودفعها بعيًدا عن العلمنة. 2 الحرب المستعّرة مع الأكراد الذين سيجدون دعًما متزايًدا٬ خصوًصا من أميركا وإيران. 3 الحرب المستجدة ضد تنظيم داعش٬ خصوًصا بعد تفجير مطار أتاتورك٬ وبعدما أكل هذا التنظيم طويلاً من صحن إردوغان الذي طالما تغاضى عنه في سوريا والعراق. 4 الحرب السياسية والإعلامية التي ستواجهه في دول الغرب التي تخشى من الحكم الكلي الاستبدادي٬ ولو جاء نتيجة العملية الانتخابية التي أعطت إردوغان أخيًرا 50.49 من الأصوات. 5 الحرب على الحدود السورية التي تضع تركيا على خط النار.
لهذا يطرح المحللون السؤال: متى الانقلاب المقبل في تركيا؟
إن الحديث عن الإعدامات والانخراط في عملية تطهير واسعة للمعارضين٬ في كل شرائح المجتمع التركي٬ سيدمران فرص انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي٬ لكن أهم من هذا أنهما سيدفنان آخر الملامح المتبقية من تركيا٬ كدولة تتحدث عن الديمقراطية. فمن الواضح أنها تسرع الخطى من ديكتاتورية العسكر إلى ديكتاتورية السلطان٬ ربما لهذا لم تتواَن صحيفة «التايمز» البريطانية في التعليق على الحدث التركي بالقول: «إن فشل الانقلاب لم يحِم الديمقراطية٬ بل قبرها.. صحيح أن الديكتاتورية العسكرية هي أسوأ أشكال الحكم المعروفة٬ لكن ديكتاتورية منتخبة ليست أقل سوًءا وخطًرا منها.. وإن تركيا تترنح في هذا الاتجاه»!