IMLebanon

محكمة..

 

جيّد مبدئياً أن تذهب إيران إلى القضاء الدولي للشكوى من العقوبات الأميركية عليها. والبحث عن «العدالة» في الشؤون السياسية والاقتصادية والتجارية.. إلخ. فهذا تطوّر يُحسب للرئيس الأميركي دونالد ترامب، أنه استطاع إيصال الرؤوس «الثورية» في طهران إلى توسّل سبله والإيمان به طريقاً لفضّ النزاعات والإشكالات والأزمات والطالعات والنازلات في العلاقات بين الدول، بدلاً من الاستمرار في اعتماد طرق غير سويّة، منها الإرهاب، أو بالأحرى أوّلها الإرهاب، لتحقيق ذلك!

 

التطور غريب عن المألوف الذي عوّدت إيران العالم عليه.. فالشرعية الدولية عند أهل «الثورة» المستدامة في «الدولة» المؤجلة ليست سوى ترداد صدى لإرادة «الشيطان الأكبر»! وأداة في يده وفي أيدي أتباعه شرقاً وغرباً! وهي (تلك الشرعية) ناقصة الصفة والمضمون ولا تُعنى بعوالم «المستضعفين في الأرض»! ولا بمصالح الدول والشعوب والأقوام المهيضة الجناح! وليس، فوق ذلك كلّه، سوى «شرعية الأقوياء» في مواجهة الضعفاء! وفي المختصر المفيد، أو غير المفيد، لا حاجة إليها! ولا داعي للحظها ولا لاحترامها ولا لوضعها في الحساب أصلاً وفصلاً!

 

إيران منذ ما يقارب العشرين عاماً مباشرة، وقبل ذلك مواربة عوّدت العالمَين العربي الإسلامي القريب والأجنبي «الكافر» البعيد على سرديّة «الثورة» التي هي أهم من كل شرعية قائمة أو نازلة. وطنية خاصة بالدول والكيانات الدستورية أو إقليمية ودولية خاصة بالكيانات المنبثقة عن «شريعة المتعاقدين» وكيانهم الجامع الذي هو الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات المنبثقة عنها أو المبنيّة على الأسس التعاقدية ذاتها!

 

وتلك السرديّة لم تبقَ في دائرة السرد، بل تُرجمت على الأرض أينما أمكن التقاط إمكانيات تلقّف تلك الترجمة.. حتى أنها (إيران) وازنت في بنيانها النظامي الداخلي، بين عالمَين لا يتوازيان. واحد دولتي مؤسّساتي لا بدّ منه لضبط شؤون الكيان وعلاقاته الخارجية واجتماع الناس وأحوالهم وشؤونهم، ورعاية تلك الأحوال وقوننتها وتنظيمها في كل شأن حياتي أو مماتي.. وآخر متفلّت من كل تلك الأطر القيدية مجتمعة ويدلّ في خلاصة الضنى على منطق ثوري لا تستقيم أحوال الزمان من دون اعتماده والجهر به والسعي من ورائه إلى اختصار العاديات والطرق والأساليب من أجل تحقيق غايات لا تنقصها «القداسة» ولا تليق تلك الغايات الخلاصية، إلا بها!

 

كان سهلاً قبل الآن بقليل، أن «تردّ» إيران على العقوبات والتهديدات بالمألوف السياسي والإعلامي والتعبوي والميداني (الفضفاض والواسع!).. لكن ذلك على ما تشي الرحلة القضائية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لم يعد ممكناً أو مربحاً أو ذا مردود أكيد.. بل تراه، في حسابات أصحاب الشأن، صار ولاّد مخاطر لا شكّ فيها طالما أن الساكن في البيت الأبيض قرّر شيئاً آخر غير الذي اتّبعه سلفه السيّئ الذكر باراك أوباما، وذهب إلى التخلّي عن سياسة «التواطؤ الإيجابي» التي تعني، العلم بالشيء وتجاهله! أي العلم بخفايا الإرهاب ومحرّكيه ومشغّليه ثمّ افتعال الغباء افتعالاً! والعلم بالشعارات والطموحات العابرة فوق الحدود والكيانات السيادية بحثاً عن الأدوار الملحمية والقطبية والمحورية والعظمى، ثم التطنيش عن ذلك، بل والذهاب إلى دعوة الضحايا إلى «التنسيق» مع الإيرانيين بأبعاد أكثر وطأة من ذلك المفهوم الوسطي وصولاً إلى معناه الأخير والفعلي: الخضوع وعدم المقاومة!

 

إيران تذهب إلى المحكمة لمقاضاة الأميركيين وكأنّ النزاع معهم هو على قطعة أرض حدودية! أو على جزيرة بحرية مُلتبسة الأبعاد والهوية! أو على خلاف تجاري! أو بتهمة دفع شيك بلا رصيد! مُغيّبة عن قصد تام الأبعاد الاتّهامية الشاملة الخاصة بالسياسة والأمن والعلاقات الدولية والتي تدل على افتراقات كبرى، لا دخل للقضاء فيها! ولا علاقة لها بالمواد القانونية التي يلجأ إليها المظلوم سعياً إلى رفع الظلم عنه!

 

إيران تعرف أن سعيها في لاهاي غير ذي جدوى. ومع هذا تبحث عن تسويق صورة «المظلوم الباحث عن العدالة» أكثر مما تبحث عن قانونية أو عدم قانونية العقوبات الأميركية عليها! لكنها، في سعيها ذاك ترسل إشارات لم يلحظها أتباعها في لبنان في موقفهم من المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع أن الذين ذهبوا إلى هذه المحكمة لم يبحثوا عن «صورة» مفتعلة إنما عن عدالة حقيقية!