عاد شبح الحديث عن اضطّرابات أمنيّة واسعة وعمليّات اغتيال يملأ الأجواء، تارة يعود هذا الحديث على شكل تحذيرات مصدر ديبلوماسي أو أمني وتارة على هيئة توقّعات وتنبّؤات، منذ دخل شهر تشرين الثّاني ونحن نسمع كلاماً من هذا النّوع يوتّر أعصاب الشّعب اللبناني المتوتّرة أساساً بفعل كلّ ما يمرّ عليها من يوميّات طاحنة، بعد كل العظائم التي نتعايش معها ينقصنا التخوّف من الأيّام الآتية تسبقها التّحذيرات على طريقة الله ينجّينا من الآتي، ووحده الله يعلم ما تخفيه الأيام المقبلة للبنانيّين لأنّ اللّعبة مجدّداً أقفلت في وجه اللّاعبين وللمناسبة كلّ الفرقاء يتحمّلون مسؤوليّة التّعطيل بأنواعه فكلّهم تضافرت جهودهم لإيصال البلاد إلى هذا الحال وكلّهم متورّطون في انفجار الفوضى والانزلاق إلى الاضطّرابات التي ستهزّ أمن البلاد!
ما يحدث تجاذب كبير ظاهره قضائي وهو في الواقع تحاربٌ سياسي وطائفي، قديماً قال ابن هانئ الأندلسي: “ألا كلُّ آتٍ قريبُ المَدى”، واستمرار اللّاعبين السياسيّين في هدر الوقت الضّاغط على اللبنانيّين بشكل لم يشهدوه حتى في أيّام الحرب الأهليّة بهكذا مهازل، وحتّى الآن المشهد اللبناني لا يُصدّق لأنّه مشهد ضبابي مخيف لا يستطيع أحد معه أن يقرأ تحوّلات الأحداث المقبلة على لبنان، فعضّ الأصابع لا يزال مستمرّاً بين الرّئاستين الأولى والثّانية وآخر مظاهره بالأمس تغريدتيْ سجال تؤكدان أن الجمر لا يزال تحت الرّماد وهي مرحلة خبرها اللبنانيّون جيّداً أيام الحرب الأهليّة مع كلّ جولة عنف كانت تندلع عندما تصل الأمور إلى نفس المشهد المقفل الذي نصطدم به اليوم!
أزمة المحقّق العدلي طارق البيطار وتوابعها بكلّ أسماء القضاة التي دخلت عليها، كافية لفضح هشاشة الحقيقة اللبنانيّة وكون هذا الوطن مجرّد قشرة هشّة جدّاً، وفي الحقيقة لا تُلام الطوائف في اختبائها خلف الخطوط الحمراء لأنّ هذه الحدود هي التي تحمي الطوائف، وأنّ الذين يرفعون الصّوت مدّعين الدّفاع عن القضاء وشعارهم خلاص لبنان في “إستقلال القضاء” يعلمون علم اليقين أنّه لا يوجد استقلاليّة للقضاء وأنّ نزاهته مسألة شخصيّة تتفاوت بين قاضٍ وآخر وكلّهم هناك من يقف خلف تعيينهم.. وكلّما تعقّدت أزمة لبنان كلّما اتّضح وضوح الشّمس أنّ هذه المنظومة السياسيّة لم تعد صالحة، والمطلوب أن نفكّر جديّاً وقبل فوات الأوان ببديل جدّي قابل للحياة.
تفتقد الحالة اللبنانيّة اليوم إلى فكر بنّاء، ليس لأنّ لبنان لا يمتلك هذه العقول المفكّرة بل لأنّ هذه العقول نفسها زاهدة في البلد وناسه، ومدركة أنّ هذا الشّعب “ما بيحمل غلوة” انقسام وهيجان مذهبي وطائفي وأنّه لا يحتاج إلا لبضع هتافات حتى تندلع بعدها مشاريع الحروب الأهليّة، والقاعدة المنطقية هنا أنّ أقصر الطّرق بين نقطتيْن هو الخط المستقيم، ولكن في لبنان لا يوجد خطوط مستقيمة ولا يوجد صدق ولا نوايا صادقة، وما يحدث هو أكبر عمليّة خداع منظّمة للبنانيّين ولدول العالم أيضاً في الواقع الكارثة وما هو ألعن وأضلّ سبيلاً عدم اعترافنا العلني بأنّ ما نعيشه سببه تحكّم حزب الله بمصير لبنان، هذه هي الحقيقة مهما كابر وكذّب وتآمر اللبنانيّون على أنفسهم!