سياسة الحكومة تعتمد على التضخّم وستؤدّي إلى إفقار الشعب اللبناني
يُمكن تشبيه لبنان بالمريض الذي يتعرّض لنوبات دماغية ينصح على أساسها الأطباء بمنع المريض من التحرّك كي لا تقضي عليه هذه النوبات. وبالتالي تأتي عطلة عيد الأضحى والإقفال الذي أقرّته الحكومة للسيطرة على تفشّي كورونا، لتُشكّل نوع من الراحة لهذا المريض تفاديًا للكارثة.
إلا أن هذا المريض على موعد مع إستحقاق جديد يتمثّل بصدور قرار المحكمة الدولية في قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري وذلك في السابع من آب الجاري. وإذا كانت التداعيات الأمنية لمثل هذا القرار غير واردة، إلا أن التداعيات السياسية سواء كانت داخلية أو خارجية ستكون حاضرة وبالتالي فضّلت السلطة تفادي قطوع جديد عبر إقفال البلد بحجّة كورونا.
بالتزامن مع هذا الأمر، يستمرّ كورونا بضرب لبنان مع تسجيل 182 إصابة جديدة البارحة ليظهر بذلك مدى خطورة التخطيط للمستقبل مع غياب علاج لهذا الفايروس وهو ما قد يضع الإقتصاد في وضع حرج أكثر مما هو عليه ولكن أيضًا وضع علامة إستفهام على العام الدراسي المُقبل في ظل الأعداد الكبيرة للإصابات.
وبالنظر إلى الإجراءات الحكومية على كافة المستويات، يُمكن الإستنتاج أن الحكومة أصبحت عاجزة عن مواجهة كل هذه التحدّيات وأصبحت تتخبّط في مكان ما كما أظهره تصريح رئيس الحكومة حسان دياب الذي إنتقد فيه زيارة الوزير الفرنسي وإتهمه بنقص معلوماته عن الإصلاحات التي قامت وتقوم بها الحكومة. وهذا الأمر يُشير إلى التباعد الفعلي الذي وصلت إليه علاقات الحكومة مع المُجتمع الدولي.
الإستخدام السياسي لقرار المحكمة
قرار المحكمة الدولية المتوقّع في السابع من آب القادم، أصبح شبه معروف بحسب الخبراء وينصّ على إدانة المتهمين. هذا الأمر دفع الحكومة بحسب المعلومات إلى إغتنام فرصة تفشّي مرض كورونا لإقرار إقفال عام بالتزامن مع صدور القرار وذلك تفاديًا لأي تفاعل على الأرض مع هذا القرار. وإذا كانت الترجيحات ألا يكون هناك ردّات فعل على الأرض مثيرة للقلق، إلا أن الجيش والأجهزة الأمنية على أهبة الإستعداد لمواجهة أي طارئ خصوصًا أن قائد الجيش العماد جوزف عون كان قدّ صارح أن الجيش لن يسمح بتهديد السلم الأهلي وهو ما يُظهر مدى إصرار الجيش على الضرب بيدّ من حديد كل من سيحاول العبث بهذا السلم.
في المقابل سيكون الإستخدام السياسي لقرار المحكمة الدولية كبير داخليًا وخارجيًا. على الصعيد الداخلي من المتوقّع أن تعمد القوى المعارضة لحزب الله إلى إستخدام هذا القرار للضغط عليه بإتجاه الحياد. وسيُترّجم هذا الضغط بتصريحات تُطالب الحزب بالنأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية وهو موقف ستلاقيه القوى الخارجية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ولو بنبرة عالية أكثر من خلال تصريحات قاسية وعقوبات إضافية قد تفرضها واشنطن بالتزامن مع هذا القرار.
إلا أن المخاوف تبقى من التداعيات الإقتصادية وبالتحديد النقدية التي يُمكن أن يُخلّفها هذا القرار من ناحية الضغط على الحزب من باب رفع سعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء من دون أن يكون هناك من سقف مُحدّد لهذا الإرتفاع. وإذا كانت توقعاتنا أن يكون هذا الإرتفاع إرتفاع هيكلي، إلا أن المجتمع الدولي يعرف أن قفزات كبيرة في سعر الصرف سيكون لها تداعيات قدّ تُفجّر الوضع أمنيًا وهو أمر لا تريده الولايات المُتحدة الأميركية.
الترويج لفوائد التضخّم جريمة
في هذا الوقت تستمر الحكومة من خلال بعض تصريحات بعض الأشخاص التابعين لها من الترويج لفوائد التضخمّ المُفرط! هذا الأمر الذي يُعدّ ذات خطورة عالية، يتمّ التعامل معه على أنه أحد الخيارات المُمكنة في حين أنه أخطر قرار تلجأ إليه الحكومة وسيتمّ إدانتها في يوم من الأيام على مثل هذا القرار.
وإذا كانت هذه الحكومة غير مسؤولة عن تراكم الدين العام على مرّ العقود، إلا أن مسؤوليتها واضحة في القرارات التي تتخذها على مثال قرار إطفاء الدين العام والخسائر من خلال التضخمّ. في الواقع هذا القرار الذي يُشكّل عماد الخطّة الحكومة هو عمل إجرامي بحق الشعب اللبناني لأنه يُفقّره وينقله من مستوى إجتماعي إلى أخر منخفض وسيفوق مستوى الفقر في الأعوام القادمة عتبة الـ 80%!
النظرية الإقتصادية تنصّ على أن الدول تعمد إلى الإستدانة لخمسة أسباب:
أولاً – خلل زمني بين تاريخ تحصيل المداخيل وتاريخ الدفع، وهو ما يُلزم الدولة الإقتراض في الأسواق لسد الحاجة لفترة زمنية قصيرة. ومن الحاجات المُتعارف عليها أجور الموظفين، سد رأسمال دين معين#0236 وهي حاجات قد لا تكون الأموال متوافرة في الخزينة لتغطيتها.
ثانيًا – الحاجة لتمويل إستثمار معين كانت قد خططت له الحكومة في مشروع الموازنة. ويُعتبر هذا النوع من الإستدانة الأرقى إقتصاديًا والأكثر شرعية.
ثالثًا – إستخدام الدين كرافعة تسمح بزيادة المداخيل وهي تقنية تتطلب سلوكا ثابتًا من ناحية إدارة المالية العامة.
رابعًا – حدث غير إعتيادي على مثال عدوان تموز 2006 أو كارثة طبيعية تُلزم الدولة إلى إصدار سندات بهدف مواجهة الإستحقاقات المترتبة نتيجة هذا الحدث.
خامسًا – سوء إدارة موازنة الدولة وما ينتج عنه من عجز يتوجب تغطيته وبالتالي وفي ظلّ غياب أية مداخيل إضافية ناتجة عن وضع ماكرو-إقتصادي سيء، يتم إقتراض الأموال لسد هذا العجز.
هذه الأسباب منها ما هو شرعي مثل الأول والثاني والثالث نظرًا إلى الطبيعة التشغيلية للدولة وإدارة شؤونها المالية وتحسين الأداء الإقتصادي، ومنها ما هو نادر كالسبب الرابع، ومنها ما هو غير مقبول مثل السبب الخامس والذي يُعبر سبب تراكم الدين العام في مُعظم الدول في العالم.
إذًا وكما سبق الذكر، هذه الحكومة غير مسؤولة عن تراكم الدين إلا أن طريقة المُعالجة التي تقوم بها هي طريقة خاطئة ويكفي التمعّن بالنظرية الإقتصادية لمعرفة أن حلّ التضخّم الذي تقترحه الحكومة كارثي.
للسيطرة على الدين العام، هناك عدد محدود من الوسائل والتقنيات:
أولا – تحفيز النمو إلى مستويات تتخطّى فيها نسبة الفائدة على الدين العام.
ثانيًا – زيادة الضرائب مما يسمح بزيادة مدخول الخزينة العامة.
ثالثاً – إعتماد خطط تقشف على صعيد الموازنة وهذا الخيار مع الخيار الأول هو الأكثر إعتمادًا من قبل الدول المُتطوّرة.
رابعاً – دفع التضخم الى مستويات أعلى بحكم أن التضخم يلعب دور المُنظم في أوقات الأزمات ويسمح باعادة التوازن المالي.
في الواقع الخيار الرابع هو الذي إعتمدته الحكومة اللبنانية من دون أن تعمد إلى دراسة التداعيات على المجتمع اللبناني! هذا الخيار كان قد إقترحه «رينهارت» في دراسة علمية له في العام 2010 حيث أثبت أن هناك علاقة بين النمو، الدين العام والتضخم في الولايات المُتحدة الأميركية من العام 1970 إلى العام 2010.
وبحسب دراسة رينهارت يلعب التضخم دور المُنظم في أوقات الأزمات ويسمح باعادة التوازن المالي للمالية العامّة. وعليه إقترح بعض الإقتصاديين الأميركيين أن تضخماً بنسبة 5 إلى 6% يسمح للولايات المُتحدة الأميركية بتخفيف وزن دينها العام.
وبحسب الآلية، تقترض الولايات المُتحدة بالدولار الأميركي الذي هو عملتها وهذا الإقتراض يأتي من إستثمارات بمعظمها أجنبية لذا فإن خفض معدل الفائدة الحقيقية لن يكون له تأثير على الأميركيين ويسمح بخفض الدين العام الأميركي. الجدير ذكره أن التضخم لا يقضي على الدين العام إنما تسارع التضخم هو الذي يقضي على الدين (يجب خلق تضخم يفوق توقعات المُستثمرين).
الحكومة اللبنانية ومن خلال خطتها المالية عمدت إلى طرح تضخمّ 52% في العام 2020 حتى الوصول إلى نسب 3% في العام 2024. إلا أنه غاب عن بال الحكومة أن السيطرة على التضخّم لا يتمّ في حال التعثّر الذي أعلنته في 7 أذار من العام 2020وبالتالي فقدت الحكومة ومصرف لبنان السيطرة على التضخم إلى حدّ وصوله إلى 50% على أساس شهري.
أضف إلى ذلك أن الدين العام البالغ 29 مليار دولار أميركي يحوي على 34 مليار دولار أميركي بالعملة الأميركية مما يعني أن إرتفاع الدين بهذه العملة. وبما أن ما يزيد عن 20 مليار من الدين بالدولار الأميركي هو ممسوك محليًا، عمدت الحكومة إلى هيركت بنسبة 70%! مما يعني تفقير واضح للمجتمع اللبناني.
وقد يقول البعض أن الرأسماليين هو من يمتلكون سندات الخزينة، إلا أن المُعطيات على الأرض تُشير إلى أن العديد من الأشخاص العاديين قاموا بإستثمار تعويضهم أو مدخراتهم في سندات الخزينة.
وبالتالي وبتحليل بسيط، يُمكن للقارئ أن يستنتج أن إعتماد (تسارع) التضخم كحل لخفض الدين العام، يُجبر الأجيال القادمة على قبول نسب تضخم عالية أو إعادة إظهار الدين العام في محاولتهم لتثبيت الأسعار!
لذا، ومما تقدم، نرى أن طرح التضخم كحل للخروج من الأزمة هو كارثة بكل ما للكلمة من معنى إذا سيقوّض الأمن الإجتماعي للمواطن وسيُدّخل الإقتصاد اللبناني في دوامة التضخمّ المُفرط.