لا نتمنّى أبداً أن ينزلق «العهد» ولا أن يجري تصويره على أنّه يتحوّل إلى نظام قمع وكمّ للأفواه وتهديدٍ بالسّجون لكلّ من يعبّر عن رأيه، لا نتمنّى هذا أبداً، نظرة حولنا على العالم العربي تؤكّد أنّ زمن الديكتاتوريات ولّى وإن كان ثمن رحيلها باهظاً ومكلفاً تقتيلاً وتدميراً وخراباً وضياع الأمن والأمان.
الحرص على الأمن القومي المالي مطلوب، والدفاع عن سمعة لبنان الماليّة شيء، وقول الحقيقة شيء آخر، بالأمس وفيما كانت مجموعة من المحامين تتقدّم بـ»إخبار أمام النيابة العامة التمييزية ضد مجلة «the economist» الإقتصادية العالمية لنشرها مقالاً تتحدّث فيه عن وضع لبنان الإقتصادي السيء واحتمال تعرّضه للإنهيار مرفقاً بصورة للعلم اللبناني مفككاً والأرزة تسقط منه»، في نفس الوقت كان نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً والخبير المالي والإقتصادي الدكتور غسان عياش يستخلص بعد حديث ونقاش عام «أننا على شفير هاوية عميقة قد نقع فيها إذا ما استمر غياب الحلول المنطلقة من تغليب مصلحة الدولة ومؤسساتها على المصالح الفئوية الضيقة وقال إنّ دقة الأوضاع يجب أن تضع المسؤولين أمام خيارين لا ثالث لهما فإمّا بدء ورشة العمل ومعالجة الوضع وإما فالوضع سائر نحو الأسوأ»، الادّعاء أنّ الأزمة ليست على هذه الدّرجة من الخطورة ودفن الرأس في الرّمال لا يلغي أبداً دقّة الوضع اللبناني!
ما لا نتّفق به مع كثيرين هو تحميل «العهد» تبعات الأزمات الكبرى التي يواجهها لبنان وتوجيه اتهامات من العيار الثّقيل بحقّ العهد، لدينا عشرات الملاحظات على العهد، وعلى فريقه أيضاً، خصوصاً وزير الخارجية جبران باسيل وأدائه الرّديء في تدخّله في شؤون مهام رئيس الحكومة ودوره أو إدارته من وراء الستار وزارات أخرى غير وزارته، لدينا هنا مئات الملاحظات.
ما ليس مقبولاً أبداً تحميل رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون وعهده مسؤوليّة الوضع الذي بلغته البلاد، هذه الأزمة سببها تراكم جبالٍ من أخطاء الحكومات المتعاقبة منذ العام 1993 وحتى اليوم، وسببه أيضاً «مصّ دم الدّولة» عبر المجالس سيّئة الذّكر من مجلس الجنوب، ومجلس الإنماء والإعمار سوليدير، وشركتيْ الخلوي الملزّمة للأقارب في تسعينات القرن الماضي والتي نهبت أموال الدولة بكل فجاجة والصناديق التي تحوّلت مغارة منهوبة ومنها على سبيل المثال صندوق المهجّرين، هذا الفساد والنّهب المنظّم عمره عقود من الزّمن، على الأقلّ عمره ربع قرن من الزّمان، لا يوجد دولة في العالم تنهار بعد ثلاث سنوات من عمر «العهد» أيّاً كان هذا العهد!
العهد بريء من دماء هذه الضائقة الكبرى والأزمة التي تنذر بالانهيار، والعهد بريء على الأقل لقد كان خارج منظومة الفساد الكبرى التي حكمت لبنان طوال خمسة عشر عاماً من عمر الوصاية أو احتلال ما بعد «الطائف»، هذا إذا أراد أي لبناني أن يكون محقّاً وعادلاً، من سوء حظّ العهد أنّه جاء إلى الحكم ليتحمّل أعباء كلّ العهود التي سبقته وتسبّبت في الحال المخيف الذي وصل إليه لبنان!
وللمناسبة، نحن هنا لا ندافع عن العهد، إذ لهذا العهد جيوشاً تدافع عنه وترتكب أخطاء شنيعة بحق اللبنانيّين الآخرين، وتسعى لفرض تقديساً ما للعهد وسيّده بلغ حدّ اعتبار «بوكسر» العهد من «الأماس»، هذه الجيوش وحدها ساهمت بتشويه صورة العهد واستفزاز اللبنانيين ضدّه وتنفيرهم منه، ومن المؤسف أيضاً أنّه لم يجرِ وضع حدّ لأمثال هؤلاء، وكأنّ هذه مهمتهم ودورهم!
أمرٌ واحد، نجد شخصيّاً العهد مسؤول عنه، أنّه لم «يقبض على أزمّة الحكم» في هذه الأزمة الخطيرة، لم يشكّل هيئة طوارىء تبقى في حالة انعقاد دائم، وأنّه لم يجمع الخبراء الاقتصاديين من لبنان والخارج لوضع خطط الخروج من هذا المأزق، في مواجهة هكذا واقع مخيف على جلسات الحكومة أن تبقى مفتوحة، وعلى العهد أن يضرب قبضته على الطاولة رافعاً الصّوت في وجه الجميع إذ آن لهذه التجاذبات والمشادات أن تنتهي، حان دور العقل والبحث عن حلول ومخارج تنقذ لبنان من هذه الأزمة الكبرى، الآن وأكثر من أي وقت مضى المطلوب من سيّد العهد أن يكون «بيّ الكلّ»، وأن يجلسهم جميعاً على طاولة الحلّ والعقد والرّبط.