إستمرار الدفاع عن مسؤولية العهد العوني في ما آلت إليه الأوضاع من إنهيارات وإفلاسات أصبح من نوع «لزوم ما لا يلزم»، بعدما أصبحت ترديّات الأمر الواقع أكبر من إمكانية إنكارها، أو حتى القفز فوقها بحجج واهية للهروب إلى الأمام، وإلقاء التبعات على العهود التي أعقبت إنتهاء الحرب الأهلية.
القراءة الموضوعية للظروف والعوامل التي أدت إلى وقوع هذه الكوارث في عهد عون، تُبين بكل وضوح أن الإنحدار لم يبدأ عند دخول «الجنرال» قصر بعبدا، بل بدأ عندما أعلن صهره، وزير الطاقة يومذاك، الإنقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري من الرابية، وإسقاط إتفاق الدوحة، بالخروج عن أهم بنوده التي نصت على تعهد فريق ٨ آذار بعدم الإستقالة من الحكومة، مقابل الحصول على الثلث المعطل.
مراجعة الأرقام تُثبت أن نسبة النمو في ذروة عهد الرئيس ميشال سليمان بلغت معدلاتها ٩بالمئة، وأن حجم الإستثمارات الخليجية، وخاصة السعودية، تضاعف عدة مرات عما كان عليه في السنوات العجاف، التي أعقبت إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأن الحركة السياحية والنشاط التجاري بلغ أوجه، في النصف الأول من ولاية العماد سليمان.
فرمل الإنقلاب السياسي الذي ركّب «حكومة حزب الله»، لأنها كانت تركيبتها مقتصرة على جماعة ٨ آذار، الإندفاعة الإنمائية والإستثمارية في البلد، وجاء الشغور الرئاسي طوال سنتين ونصف ليزيد الأمور جموداً، ويدفع بمصرف لبنان لإعتماد الهندسات المالية المُكْلفة، حفاظاً على الإستقرار النقدي، وسعياً لتأمين نفقات الدولة المتزايدة.
وصل العماد ميشال عون إلى الرئاسة الأولى في ٣١تشرين الأول ٢٠١٦، وبدأ معه عهد الإنفاق العشوائي والصفقات، وعمليات النهب المنظم والسرقات. تم إستئجار البواخر التركية بمليارات الدولارات، ولسبع سنوات بدل الإكتفاء بسنتين فقط، كما أقرّ محلس الوزراء، وذلك على حساب إهمال تنفيذ خطة بناء المحطات الجديدة، وتأهيل المحطات القديمة. وصُرفت مليارات أخرى على مشاريع سدود تبين اليوم إنها غير مُجدية، لأنها لم تتوافر فيها أدنى الشروط الطوبوغرافية اللازمة. وفي خضم المزايدات الشعبوية بين الأحزاب السياسية عشية الإنتخابات النيابية ٢٠١٨، جرى إعتماد سلسلة الرتب والرواتب الجديدة دون تأمين التمويل الكافي لها، وعمّت موجات الفساد المنظومة الحاكمة، حيث جرى سباق محموم بين قياداتها لتجميع الثروات، والسطو على المرافق الحيوية للدولة والمال العام بشكل غير معهود في أسوأ العهود الإستقلالية السابقة.
تميز العهد الذي رفع صاحبه شعار «التغيير والإصلاح» بالعجز عن تنفيذ أية خطوات إصلاحية، وبالفشل في إحداث التغيير المطلوب سواء في الذهنية السياسية، أو على مستوى إصلاح أوضاع الإدارة الفاسدة. بل على العكس تماماً، حيث أدت شهوة التفرد بالسلطة والتسلط على مقدرات البلاد والعباد، إلى بروز المزيد من المشاكل والأزمات، بسبب التمسك العنيد بأساليب سوء الإدارة وتعثر الأداء، وممارسة أبشع سياسات الكيدية والنكايات مع الخصوم السياسيين، مع العلم المسبق بالنتائج الكوارثية التي يمكن أن تجرها تلك الممارسات على البلد، بل على العهد وفريقه أولاً، الذي أتقن لعبة الإنكار حتى النهاية، وكان، هو بالذات، أحد أبرز ضحاياها.
وما يعيشه البلد اليوم، ومنذ الإنتخابات النيابية الأخيرة وإستقالة الحكومة الميقاتية، ما هو إلا فصل جديد من مسرحية الإنكار، إلى حد الإنتحار من قبل فريق العهد. فقد أدت مناورات هذا الفريق وعناده إلى تعطيل الولادة الحكومية منذ ستة أشهر، وبالتالي تجميد كل المشاريع الإنقاذية والخطوات الإصلاحية التي كان من الممكن تنفيذها في هذه الفترة، لتُحسب من إنجازات عهد العماد عون، والتخفيف من معاناة الناس، والمضي قدماً في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وفتح أبواب المساعدات.
الواقع أن الإصرار على أبقاء البلد بمستوى حكومة تصريف الأعمال، وعدم المبالاة بحصول الشغور في رئاسة الجمهورية، ليس عملية إنتحارية لفريق العهد وتياره السياسي وحسب، بقدر ما هو نحر جماعي للشعب اللبناني الذي يعاني الأمرّيْن بسبب توالي الإنهيارات الإقتصادية والإجتماعية والمعيشية، التي أوصلت البلاد والعباد إلى الإفلاس الراهن، وأسقطت الجميع في جهنم وبئس المصير، فيما سيد العهد وتياره يرمون المسؤولية على العهود السابقة، زوراً وبهتاناً، متنكرين لـ«النعيم» الذي كان في العهود السابقة، من كهرباء معظم ساعات اليوم، وإستقرار في الوضع النقدي والمالي، وبحبوحة في العيش إفتقدها اللبنانيون في عهد العتمة والأزمات المدمرة، فضلاً عن حالة الإنفتاح والتفاعل مع الأشقاء العرب، الذين لم يبخلوا يوماً بمساعداتهم ودعمهم للشقيق المشاغب على قياداتهم وأمنهم وإستقرارهم.
أما التهديد بنشر «الفوضى الدستورية»، فهو كمن يطلق رصاصة الرحمة على ما تبقَّى من مقومات الدولة، وعدم إنزلاقها إلى قاع الدولة الفاشلة، والتلذذ بآلام الناس وعذاباتهم في أقسى أزمة معيشية عرفها اللبنانيون منذ الحرب العالمية الأولى، قبل مائة عام ونيّف.
ورغم كل هذا الفشل، ومع كل هذه الإنهيارات المتوالية منذ بداية العهد الحالي، لا يتورع بعضهم عن الحديث عن «إنجازات الجنرال» حيناً، أو يردد مقولة «ما خلونا نشتغل» أحيانا كثيرة!
المهم، أيام قليلة ونطوي صفحة السنوات السوداء.. بإنتظار بزوغ الفجر الجديد مع العهد العتيد!