عرفت الجمهورية الإسلامية دائماً أنها يوماً ما ستتخذ قراراً بالتفاوض مع أميركا التي اعتبرتها عدواً لدوداً لها ولـ”الشعوب المستضعفة في العالم”. لكنها أرادت قبل التفاوض تحقيق عدد من الانجازات الداخلية والخارجية لأن هدفه لن يكون للاستسلام لواشنطن، وإنما لتكريس ما تحقّق، وللعودة إلى المجتمع الدولي من الباب الكبير ولاستحقاق دور اقليمي طموح جداً واجه منذ تأسيسها رفضاً إسلامياً عربياً وإقليمياً ورفضاً دولياً كبيراً. نجحت هذه الجمهورية في تحقيق إنجازات كبيرة ملموسة رغم الحرب القاسية مع صدام حسين بين 1980 و1988، ورغم العقوبات “الأممية” والأميركية والأوروبية. فأسَّست دولة جدية وعالجت قضايا اقتصادية ومعيشية واجتماعية، و”صدّرت” ثورتها الإسلامية إلى أكثر من دولة عربية ومسلمة ونجحت في إرساء أسس محور إقليمي موال لها مؤلف من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين أطلق عليه العاهل الأردني عبد الله الثاني اسم “الهلال الشيعي”. ورغم ذلك لم تُفاوِض أميركا. ذلك أنها كانت تنتظر الإنجاز الأكبر الذي يجعل رفض أميركا وغيرها من الدول الكبرى فضلاً عن دول المنطقة دورها الاقليمي وربما الدولي الواسع مستحيلاً أو بالأحرى بالغ الصعوبة وهو التحوّل دولة نووية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، بامتلاك المواد والمعرفة وبالنجاح في تصنيع سلاح نووي على طريقة كوريا الشمالية. أي من دون تأكيد الوصول إلى هذه المرتبة ولكن مع تزايد الشكوك في أنها وصلت إليها.
ما الذي دفع إيران الى التفاوض مع أميركا والمجتمع الدولي رغم عدم وصولها (؟) إلى آخر محطة في آخر مرحلة في مشروعها النووي؟
لا شك في أن العقوبات الدولية ألحقت أذى بشعبها وباقتصادها ومنعت تجديد بناها التحتية المدنية والاقتصادية والنفطية. لكنها ما كانت لتحقق الغاية التي أرادها فارضوها لو لم يتبعها عوامل مهمة أبرزها اثنان. الأول، انطلاق ما يُسمّى “الربيع العربي” الذي تحوَّل شتاء معتدلاً في دول وعاصفاً في أخرى، والذي هدّد جدياً “الهلال” المشار إليه أعلاه والأنظمة الموالية لها داخله أو بالأحرى المتحالفة معها، خصوصاً بعدما أيقظ هذا “الربيع” صراعاً بين السنّة والشيعة من نوم عميق وطويل. والثاني، انخفاض سعر النفط أكثر من 50 في المئة.
طبعاً سهّل قرار التفاوض وصول الشيخ حسن روحاني المصنف معتدلاً وربما إصلاحياً إلى رئاسة الجمهورية الإسلامية مع كونه جزءاً أساسياً من نظامها وامتلاكه برنامجاً يحلُّ كثيراً من مشكلات الداخل الإيراني التي تهمّ الشعب ويوصل إلى تسوية مقبولة لملف إيران النووي. لكن العامل الحاسم الذي جعل التفاوض قراراً رسمياً والذي سمح باستمراره قرابة سنتين من ردود فعل غاضبة عليه كان اقتناع المرشد والولي الفقيه السيد علي خامنئي بوجود مصلحة لإيران ونظامها في ذلك. ولم يثنِه عن الاقتناع ميله في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى مرشح آخر لها. ذلك أن روحاني أكد له ومنذ البداية أنه سيطلعه على كل تفصيل في المفاوضات أياً يكن حجمه وأن شيئاً لن يُقبل من دون موافقته، وأنه على استعداد للتخلّي عن هذا “المشروع” إذا وجد (المرشد) أنه مؤذ لإيران. وشكّلت لجان عملت بإشراف خامنئي على درس مجريات التفاوض النووي. وكان المفاوضون يطلعونه يومياً على كل ما يدور وينتظرون قراره. وتم ذلك بصبر إيراني معروف وعناد وإصرار وتمسّك بالمصالح “الوطنية الإسلامية” معروفة أيضاً. وقد لمس العالم كله ذلك، بعد إنجاز الاتفاق بل قبل إنجازه، من التغطية العلنية حيناً ونصف العلنية حيناً والضمنية أحياناً التي كان المرشد يوفرها للوفد الإيراني المفاوض. ولولاها ما كان الإنجاز ممكناً، وكذلك التصويت الإيجابي عليه في “مجلس الشورى” رغم اعتراض المحافظين. وهو اعتراض نابع من عاملين: الأول، وجود فريق داخل التيار المحافظ رافض فعلاً لأي تفاوض حول النووي وغيره مع أميركا وغيرها ومصرّ على ما يعتبره أسس الثورة الإسلامية الخمينية في إيران. والثاني، اقتناع فريق آخر داخله أن الاتفاق بعد المصادقة عليه سيعطي دفعاً للتيار الإصلاحي أو غير المحافظ في البلاد، وذلك ليس في مصلحته سياسياً وشعبياً. طبعاً كان خامنئي يعرف ذلك كله ويقيس الأمور بميزان الذهب أو ميزان “الجوهرجي”، ولم تكن في عقله وقلبه إلا مصلحة إيران ونظامها، وتمكّن إيران والمجتمع الدولي من الانتقال إلى مرحلة تنفيذه.
كيف سيعالج المرشد الولي الفقيه السيد خامنئي العلاقة مع أميركا؟