ليست التظاهرة اللبنانية التي احتجت السبت على “إلزامية اللقاح” ضد “كورونا” فريدة من نوعها حتى نُصاب بالدهشة. فالعالم الغربي الديموقراطي شهد نزول مئات آلاف المحتجين الى الشوارع مستنكرين “انتهاك حريتهم” ومعلنين أن أجسادهم ملك لهم، فيما ساد الامتناع المكبوت لدى شرائح واسعة في دول “الشرق” الاستبدادية أو المتخلفة حيث تزدهر نظريات مؤامرة أو أفكار دينية رجعية.
وإذا كان الجدل في فرنسا، مثلاً، حول إلزامية التلقيح هو نقاش جدي حول حدود حق المجتمع ممثلاً بالدولة وبين حدود حق الأفراد، ودخل المعركة الانتخابية الرئاسية باستهداف الرئيس ماكرون لاستخدامه كلمة شوارعية مهينة ضد الرافضين (je vais les emmerder)، فإن فكرة مواجهة “الإلزام” في الأساس ناجمة عن تقليد فرنسي يرفض هيمنة السلطة على الحريات الشخصية، وعن إحساس منتفخ لدى كثيرين بأن حريتهم الفردية فوق أي اعتبار اجتماعي.
ومهما كانت الدوافع والتوجهات، فلسفية أم دينية ام ناجمة عن سذاجة وسطحية وقلة فهم وإدراك، يقضي المنطق السليم والقوانين باعتبار الحرية مصانة شرط ألا تضر بحرية الآخر أو تشكل خطراً على حياته. ووصلت المجتمعات الى مرحلة متقدمة في تطبيق هذا المبدأ في الإطار الصحي من خلال النجاح في مكافحة التدخين ومنعه في الأماكن العامة وحيث يشكل انتهاكاً لصحة غير المدخنين ومزاجهم. والتدخين يشبه إلزام السائقين ربط “حزام الأمان” او تحديد “السرعة القصوى” أو تجريم السكارى المتهورين أو منع التحرش بالنساء والقاصرين. وهي حقوق للمجتمع أعلى من حق الفرد بالتأكيد.
اللافت في تظاهرة لبنان أن الدعوة إليها قادها “اتحاد عمال لبنان”، وهو عملياً “الفرع المسيحي” لـ”الإتحاد العمالي العام”، وزيَّنها ببعض الكهنة مُصبغاً “نفحةً إيمانية” على مطلب رفض إلزامية التلقيح، ومنزلاً السماء الى الأرض بحجة أن الله اعطانا جسداً وليس لأحد غيره أن يتصرف به، وفق ما جاء على لسان الذين تظاهروا على الرحب والسعة في وسط بيروت مطمئنين الى ان المنظومة وميليشياتها غير معنية بقمع ظواهر وتظاهرات التخلف على الاطلاق، بل همُّها ذبح أي انتفاضة مدنية أو سيادية من الوريد الى الوريد.
الأكثر إثارة للاهتمام هو أن معظم اتحادات الشغل والعمال في دول العالم تشكل من خلال التنظيمات النقابية وبث شعور التضامن والمطالبة بالمساواة والحقوق الاجتماعية مكاناً جاذباً لأفكار متقدمة أو واقعية، فيما “اتحاد عمال لبنان” هو فرع طائفي لـ”الاتحاد” المذهبي، ويعكس بالتالي الحال البائسة التي وصل إليها عمال لبنان، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل على مستوى الوعي الفكري والتنظيم النقابي الأساسي والقدرة على استقلالية تحسن شروط العمل والأجور، بدل ان تكون همومهم هوائية وغيبية مصدرُها أفكار عفّى عليها الزمن، وبدل أن يكونوا كما هم اليوم أداة عمياء لدى القوى الطائفية أو خزاناً غبياً يفرغ ولاءه في صناديق الاقتراع ويستفرغ أفكاراً ملوثة في ساحة الشهداء.
إلزامية اللقاح ضد “الكوفيد” حقّ للأكثرية من منطلق مسؤولية الحفاظ على الحياة ومنع غير الملقحين من نشر الوباء… و”الويل لمن تأتي عن طريقه العثرات”. وليت هناك لقاحاً جماعياً يشكل مناعة ضد المعتقدات التي تتعاطى مع العلم والظواهر الطبيعية وكلّ التطورات بمنطق القرون الوسطى والتهيؤات.