هناك، في عالم اليوم، أنظمة عديدة تعتبر أن حيازتها لأسلحة الدمار الشامل، وخصوصاً السلاح النووي، بمثابة «ستر وغطاء»، بما يجعلها عصيّة على السيناريو الذي سبق ان اعتمد ضد يوغوسلافيا أو ضد العراق، علماً أن التدخّل في حال العراق لإسقاط نظام صدام حسين واحتلال البلد، سوّغ له بما اتهم به هذا النظام البعثي بإخفاء معلومات عن التحقيق الدولي الغربي لإتلاف مخزونه من الغازات السامة.
هناك في المقابل صعوبة ستتعاظم بالنسبة إلى بلدان شمال العالم لجهة الحدّ من انتشار الاسلحة الفتّاكة، ذلك أن السُبل العلمية والشروط التقنية لذلك لم تعد سرّ الاسرار، وسنصل الى وقت يكون فيه عدد كبير من بلدان العالم الثالث، على قاب قوسين من إنتاج قنبلة نووية.
وهذا مرعب بالنسبة الى بلدان شمال العالم، بصرف النظر عن اختلاف المقاربات بين روسيا والغرب. مرعب ايضاً بالنسبة إلى البشرية ككل، ذلك ان الحرب الباردة أدت بالنتيجة الى جعل استخدام النووي ممتنعاً، في حين أن انتشاره ووسائط التدمير الشامل الاخرى يزيد من المخاطر. فحتى لو حيّدنا مخاطر استخدام النووي، او انحصرت هذه بالصواريخ التكتيكية قصيرة المدى، يبقى الاخطر هو مغبة كوارث «التسرّب النووي» سواء من المنشآت المدنية أو العسكرية. وهذا سيزداد كلما اتسع نطاق المتحصلين على هذه المنشآت، في بلدان لم يعترِها بعد القلق البيئي بما فيه الكفاية، ويتداخل فيها التسيّب والفوضى مع السلطوية من جهة، والتقدم التكنولوجي من جهة ثانية.
لأجل كل هذا، التوتر في شبه الجزيرة الكورية يتجاوز الاختزالات الرائجة التي نسمعها صبحاً ومساء. يتعلق بإشكالية كونية: كيفية الحدّ من انتشار الاسلحة التدميرية الشاملة في وقت صارت المعرفة بكيفية تخصيب اليورانيوم والتعاون بين بلدان سبق وأن فجرت قنبلتها، كالهند وباكستان، متاحين.
ظاهر المشهد، من بعيد، أنّه عراك بين «مجنونين»، دونالد ترامب وكيم جونغ أون. لكن الإقتراب أكثر إلى معالم المشهد يظهره مواجهة بين حسابات دقيقة جداً، وخطيرة لأنها دقيقة وليس لأنها متهورة.
هذه الحسابات الدقيقة من الجانبين، في الأزمة الكورية ـ الأميركية، لا تلغي انطباعاً متزايداً بأنّ دونالد ترامب لا يكاد يهتم بملف في السياسة الدولية حتى تجده قد انكبّ على ملف آخر. «التنطط» بين الملفات، واستدارة المجتمع الأرضي عند كل عتبة للتركيز على نقطة توتر ثم الإلتفات إلى نقطة أخرى، من دون أن يبدو هناك تحضيراً تصاعدياً لحرب في أي نقطة، هو ما يطبع أداء الإدارة الحالية.
في العدد ما قبل الأخير من مجلة «الفورين آفيرز» جرى تناول سياسة ترامب الدولية من قبل تيم كاين، السيناتور عن فرجينيا الذي اختارته هيلاري كلينتون كنائبها العتيد في الرئاسيات السابقة. يفرّق تيم كاين بين سياسة منهجية لبلاده أيام الحرب الباردة، مبنية على «عقيدة ترومان» التي تعيد كل خطوة على الصعيد الدولي إلى موقعها من التنافس القطبي الأميركي ـ السوفياتي، وبين سياسات أميركا بعد الحرب الباردة، والفاقدة لرؤية استراتيجية شاملة. يعتبر كاين أن ترامب يواصل ما بدأه أسلافه من بوش الأب إلى أوباما، لكنه يتورط أكثر من سواه في وضع الربحية الاقتصادية المباشرة فوق كل من الأمن القومي ونشر الديموقراطية، الأمر الذي يزيد من المخاطر. ما يقترحه تيم كاين في المقابل من «عقيدة ترومان جديدة» تعود فيها أميركا لسياسات نشر الديموقراطية يبدو هلامياً، لكن ما هو لافت في مقاربته أنه لا يأخذ على ترامب أنه مغامر، بل أنّه يحصر سياساته بردّات الفعل.
في المقابل، في العدد السابق عليه، يدعونا المعاون السابق لباراك أوباما لشؤون الشرق الأوسط، فيليب غوردن، إلى تأمّل من نوع آخر. يعتبر أن ترامب يشبه في مسلكه الدولي «نظرية المجنون» التي انتهجها ريتشارد نيكسون. مختصرها جعل الأخصام يعتقدون بأنك متهوّر فيحجمون عن أفعالهم المتهورة. يذكّر غوردن بأن هذه النظرية لم تنفع نيكسون في فييتنام، لكنه إذ يتخيّل إحتمالات انفجار النزاع العسكري مع كوريا الشمالية أو ايران (أو حتى الصين)، يخلص إلى أنّ «نظرية المجنون» بالشكل الذي يتبنّاها ترامب ليس عندها مجال ميسّر للردّ على أخصام أميركا فيما لو لم تردعهم «الفزاعة».
نحن الى حد كبير بين هذا وذاك: لا عقيدة استراتيجية جديدة للولايات المتحدة، منذ فترة طويلة، والعالم يزداد اتكالاّ على «توازن مجانين غير مجانين»، توازن من يتظاهرون بالجنون لترويع غيرهم. حتى الآن، يعطي هذا الانطباع بأن لا حروب كبيرة في الافق، وبأنها نوبات هستيرية فحسب. لا يمكن الاطمئنان الى ذلك مطوّلاً.