Site icon IMLebanon

الارتفاع المبدِع لمستوى المناورات اللبنانية: إجابة “نووية”

ما هذا “الفيلم” الذي يدور فجأة أمام أنظارنا في السياسة اللبنانية بشكل غير مألوف منذ الفترة الأخيرة فيقوم رئيس تيار المستقبل سعد الحريري بترشيح فعلي إلى رئاسة الجمهورية (ولو غير رسمي) لاحد أعدائه طويلا سليمان فرنجية الصديق الدائم للرئيس السوري بشار الأسد وسياسته ثم بعد مدة وجيزة يرشح سمير جعجع عدوه الأول والأكبر ميشال عون لرئاسة الجمهورية؟

دعونا نعترف كمراقبين، وأنا منهم، أن المناورة السياسية اللبنانية استعادت جاذبيتها بل واتساع أفقها مع هذين الترشيحَيْن بعد تكرار وبهتان طويل من التكتيكات المملة.

ما هذا “الفيلم” الذي فجأة تمتد فيه تباعا يدا قطبين بارزين في حركة 14 آذار لتختار كلٌ منهما قطبا من 8 آذار لترشيحه لرئاسة الجمهورية رغم الحرب الأهلية والشخصية و”الإقليمية” بين كل منهما؟

لو عامَلنا ما بتنا نشاهد كمسرح، وهو مسرح، لبدا الأمر وكأن الممثلين غيّروا أدوارهم فجأة ويريدون إقناعنا بأن ذلك تم من دون مراجعة المخرجين الذين يتوزعون وراءهم وأمامهم.

لذلك أول ملاحظة منطقية ترد هنا هي استحالة ذلك، أي استحالة انقطاع الصلة بين المحلي والإقليمي والدولي مهما كانت الحسابات ملبية للمصالح المحلية بل وحتى القروية جدا.

الملاحظة الثانية هي أن الترشيحَيْن من حيث الشكل قد يهدِّدان بعض المرشِّحين والمرشَّحين بانقطاع علاقته بمصدره الخارجي ذي التمويل الضخم. إذن مستحيل أن تكون الصورة إلى هذا الحد ولا بد أن تكون هناك بدائل محضرة ليس صعبا تخمينها.

حسناً لنذهبْ أبعد وأعقدَ في علاقة الميكرو اللبناني بالماكرو الخارجي.

لم يكن ممكنا التفكير بقرارت كبيرة الحجم في المنطقة مثل التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، أو “متوسِّطة” الحجم مثل انعقاد مؤتمرات مصالحة ليبية و يمنية وسورية أو قرارات صغيرة الحجم سياسيا ( أقصد صغيرة قياسا بأحجام الصراع في الشرق الأوسط) مثل اغتيال رئيس ميليشيا بارز في المعارضة السورية أو حتى أكثر تفصيلية… لمْ يكن ممكنا التفكير بذلك لولا الاتفاق النووي الإيراني الأميركي باعتباره نقطة الانعطاف الاستراتيجية في علاقات المنطقة وتداعياتها.

في لبنان كل شيء لدى السياسي المحلي يبدأ وينتهي بالقروي. أعرف أصدقاء مثقفين متنورين من عائلة شمالية تتقرر مواقفهم من أي حدث ليس فقط محليا، بل الحدث الإقليمي والدولي حسب ما يرونه متناقضا مع موقف زعيم العائلة الأخرى المسيطرة على منطقتهم، إذا كان لصالح أصدقائه في المنطقة وقفوا هم ضده، وإذا كان ضده أيدوا الحدث ورموزه فورا… من فنزويللا إلى واشنطن إلى موسكو إلى الرياض وطهران والقاهرة حتى بغداد ودمشق وبيروت وطرابلس.

مصدرُ موقفِ جعجع الأصلي يبدأ كما هو معروف من بشري البلدة الجبلية المجاورة لبلدة زغرتا وزعيمها سليمان فرنجية. لكن في انتخابات رئاسة الجمهورية اللعب بطبيعته أكبر. لهذا يبدو السياسيون اللبنانيون مختلفين على ملف يستطيعون الادعاءات المبدئية بخلافهم عليه. وهي في كل حال ادعاءات مستندة إلى قضايا كبيرة لا شك أو باستطاعتها أن تكون كذلك.

من كل هذه الاعتبارات هناك مسألة واحدة وجديدة بمعنى ما يمكن لها أن تعطي طابعا جاداً وعميقا لحركة جعجع وأن تُقاس هذه الحركة بمدى صلتها أو ابتعادها عنها، هي مسألة وحدة المسيحيين اللبنانيين الذين لا زالوا يسعون، أحيانا خبط عشواء، إلى إنقاذ أو استعادة ما يمكن إنقاذه من الدولة اللبنانية التي أسسها أجدادهم بمساعدة الفرنسيين عام 1920.

لهذا… إذا كانت حركة سمير جعجع تتصل جديا وليس وهميّاً بحركة وحدة المسيحيين اللبنانيين الذين بقوا الكتلة السياسية الوحيدة المهمة في الشرق الأوسط قياسا بمسيحيي المنطقة، الآخذين بالانقراض في سوريا وشبه انقرضوا في العراق وفلسطين سوريا وهم الكتلة الأكبر عدديا كمسيحيين في مصر من كل مسيحيي المنطقة ولكن الأقباط على أهميتهم ليسوا “كتلة سياسية”…

إذا كانت حركة جعجع متصلة بِـ أو مؤدية نحو توحيد غير مسبوق منذ الثمانينات من القرن الماضي للمسيحيين اللبنانيين وليست مجرد مناورة انشقاقية أو فتنوية جديدة من حيث النتائج فهذا يعني أنها حركة ذات أهمية محورية في السياسة اللبنانية على طريق طويل باتجاه إعادة الدولة اللبنانية كلاعب في سياسة المنطقة ولو بحجم فدرالي أقل من السابق، أي على الأقل بالحجم الذي للأكراد اليوم.

دعك من الكلام “التاريخي” القروي جدا وغير المديني الذي تمتلئ به بعض المقالات المحلية في الصحافة اليوم بعد ترشيح جعجع لعون. الموضوع الأساسي هو التالي كما أراه:

لا قيمة جادة في ما سيصبح تاريخ لبنان الآتي للترشيح الجعجعي إذا لم يصل ميشال عون للرئاسة. ولا قيمة أكبر، حتى لو لم يصل عون للرئاسة، إذا لم تكن بداية وحدة مسيحية، بمعنى وحدة التنوع وليس وحدة اللون الواحد كما هي (اللون الواحد) عند الشيعة والدروز والسُّنّة. إذا أدى الترشيح إلى نتائج عكسية “بهدلت” عون وفرنجية بعدما “بهدلت” سابقا سمير جعجع فهذا انحدار جديد لا نريده للمسيحيين الذين ثبت أنه لا وطنية لبنانية حقيقية من دونهم بعدما أصبح انخراط القوى المسيطرة على الشيعة والسنة ومعها دعم مجتمعي عميق أصولي فعلي لدى كل من البيئتين… أصبح ميؤوسا من إمكانية تغييره.

معادلة “لبنان أولا” غير موجودة عند القوى المسيطرة على السنة والشيعة. أي كلام آخر هو ثرثرة أو بروباغندا.

هل بإمكان سمير جعجع، بعيدا عن الإبهار الإعلامي، أن يضع مناورته على هذه السكة التي مع خطوات آخرين تُقَوِّي لبنان المسيحي؟ وصرت أؤمن أن أي تقوية للبنان المسيحي، شرط وجود نخب جديدة غير مستهلكة، هو تقوية لكل لبنان. وهل بإمكان البطريركية المارونية أن ترعى هذه المعادلة فلا تتحول مبادرة جعجع إلى “مجزرة إهدن” سياسية جديدة، وهل بإمكان سليمان فرنجية أن يتخطى في أفق أوسع، وبمساعدة من حلفائه، هذه اللحظة القابلة لتكون شيئا مُهِمّاً فلا يقع في خطأ بشير الجميل الذي اعتقد أنه يوحد المسيحيين فأقدم على قرارات أودت بوحدتهم طويلا. أكرر: لا قيمة لهذه المناورة إذا لم تكن على أساس تماسك المسيحيين بمعناه المتنوع وليس القسري.

ليست سهلةً مسألة عودة المسيحية السياسية اللبنانية لاعبا رئيسياً في لبنان فكيف في المنطقة. المسألة نفسها ضعيفة في استراتيجيات المنطقة ومن المأساوي أن أقول أنها غير موجودة حاليا. لكن مثلما ساهمت نخبتهم في وجود لبنان الكبير ربما أمكنت عودة المسيحية السياسية إلى دور رئيسي بسبب لبنان الكبير بعد النتائج ( والروائح ) الوخيمة للحرب – الحروب الأهلية السنية- الشيعية.

كنت دائما في السنوات الأخيرة الأخيرة أعتقد أن سمير جعجع يعيش بسبب ماضيه وحاضره السياسيّيْن “حالة إنكار” للمخاطر الفعلية على المسيحيين من التيارات الجهادية حتى أنني العام المنصرم كتبتُ مقالاً تحت هذا العنوان مستعيرا عنوان فيلم شهير عن جنوب إفريقيا.

لا شك أن جعجع لكي يكون قادرا على التفكير في مبادرة كالتي اتخذها، أياً تكن تكتيكاته، صار مهيَّأً للخروج من هذه الحالة، حالة الإنكار.

تتغيّر المنطقة عميقا بعد الاتفاق النووي، بما فيها إيران نفسها. منذ توقيع الاتفاق وهناك هدوء إيراني ملحوظ على كل الجبهات في المنطقة التي ساهم الطموح الجيوبوليتيكي الإيراني في تحويلها إلى بؤر صراع متفجرة.

الإدارة الأميركية الحالية تحضن الهدوء الإيراني المستجد وتدعم ردود فعل أخصام إيران في وقت واحد.

الطائفيات اللبنانية عليها في هذا الوضع أن تسأل: المستقبل لمن؟

سمير جعجع سأل هذا السؤال ضمنا وربما سأله لجهة ديبلوماسية أو أمنية أميركية.

إذن يحصل شيء خارج المألوف. وكما قال لي سفير سوري متهكِّماً مرةً أنه سمع إسم ميخائيل غورباتشوف للمرة الأولى في ساحة ضيعته البعيدة، أقول اليوم “مِنْ” ساحة “ضيعة معراب” أن اختلاف المناورات وفجائيتها المحلية يَشِيان بتحولات كبيرة.

بعيدا عن الضِيَع، بما فيها ضيعتي… يبدو أن الجو السائد الحالي لدى النخبة الديبلوماسية والبحثية الأميركية المتعاطية بشؤون منطقتنا أن “المستقبل هو إيران” في الشرق الأوسط. هذه معادلة حمّالة أوجه. يمكن أن تكون إيران داخل محدلة التغيير مثل غيرها. فأحيانا القوى التي تصنع التغيير الكبير تصبح جزءاً منه. بعد عام 1967 كان الاتجاه الغربي الصاعد في المنطقة من المفتَرض أن يكون لصالح المارونية السياسية وإذْ بكامب دايفيد المصري الإسرائيلي ينتهي ضدها رغم أنها كانت تحارب على إحدى جبهات الصعود الغربي ولصالحه. الوفاق الأميركي السوفياتي على إنهاء الحرب الباردة غيّر أوروبا والعالم ولكنه أيضا غيّر النظام السوفياتي إلخ… أمثلة “عشوائية” صغيرة وكبيرة وكبيرة جدا يعج بها التاريخ السياسي. وسمير جعجع نفسه ينتمي إلى دراما مارونية كان فيها الصعود الإسرائيلي يترافق مع الانحدار الماروني السياسي الذي ثَبُت تاريخيا أنه انحدار لكل الدولة اللبنانية.

السؤال الأخير في هذه العجالة؟

هل تستطيع هذه الطبقة السياسية الباقية عند المسيحيين ( والمسلمين) أن تقود تحوّلاً استراتيجيا في موقع لبنان أم هي مستهلكة على هذا الصعيد؟