أراد مجرمو «داعش» أن تشكل طريقة قتل الطيار الاردني معاذ الكساسبة صدمة. اختاروا بعناية وحرفية الوسائل التقنية اللازمة لتصوير حرق جسده بتلك الطريقة الوحشية. غير أنهم، تحت وطأة الحقد الاعمى الذي دفعهم الى ارتكاب جريمتهم بهذه الطريقة، لم يتوقعوا ردود الفعل الواسعة والمستنكرة لهذه الجريمة، والتي تجاوزت الاردن الى العالم العربي كله، والى سائر المسلمين في أنحاء العالم.
كانت طريقة ارتكاب الجريمة صادمة. لا شك في ذلك. الى حدّ ما كان هؤلاء المجرمون قد عوّدونا على طريقتهم في ذبح ضحاياهم، وهي طريقة لا تقلّ همجية. لكنهم هذه المرة ذهبوا بالوحشية الى اقصى ما يتصوره انسان. ونحن اذ نستغرب، كبشر، مثل هذا الفعل، ولا نتوقع ارتكابه على أيدي بشر مثلنا، فمن الضروري ان نستنتج بعد ذلك ان هؤلاء ليسوا بشراً، وبالتأكيد فانهم ليسوا بشراً مثلنا، لديهم أحاسيس ومشاعر، ويمكن ان تصدمهم افعال التعذيب التي تُرتكب بحقّ كائن حي.
لا يشير قتل معاذ الكساسبة الى ان تنظيم «داعش» هو في موقع القوة بعد ما أخذ يتعرض له من نكسات وهزائم، سواء في شمال سورية او في ديالى العراقية. على العكس، قتل الطيار دليل عجز وضعف. انه انتقام وحشي نفذته مجموعة مجرمة بدأت ترى أن نهايتها تقترب. وهو انتقام من الادانات المتلاحقة التي تواجهها جرائمهم من قبل من كانوا يفترضون أنهم سيكونون القاعدة الشعبية الطبيعية لدولتهم المزعومة، وكانوا يتوقعون منهم ان يكونوا في طليعة «المبايعين» لـ «خلافة» البغدادي، لكنهم «فوجئوا» بهم يشاركون بطائراتهم المقاتلة في قصف مواقع هذا التنظيم على الاراضي السورية والعراقية. وبهذا المعنى كان انتقامهم من معاذ الكساسبة على هذه الصورة، لأنه كان بالنسبة اليهم رمزاً لكل العرب الذين يرفضون همجيتهم، ويعتبرون ان ادعاء «داعش» تمثيل الاسلام والدفاع عن قضايا العرب هو اكبر اساءة تلحق بالاسلام وبقضايا العرب. بكلام آخر، لو أُتيح لمجرمي «داعش» ان يمسكوا برقبة أي عربي أو مسلم آخر، فان مصيره لن يكون أكثر رحمة على أيديهم من المصير الذي واجهه الكساسبة.
هذا الحقد المعتمل في قلوب هؤلاء المجرمين لخّصته العبارة التي استخدموها شعاراً للنار التي أشعلوها في جسد الطيار الاردني. «شفاء الصدور» هو التعبير عن المرارات التي تعتمل في داخلهم، لأن ما كانوا يحلمونه من غزوات وانتصارات لم يحققوا منه سوى تهجير الابرياء من مدنهم وقراهم، ونشر التخلف والدمار والموت حيثما حلّوا، والتفنّن في تصوير اشرطة ذبح الرهائن التي زادت من الالتفاف الشعبي ضدهم.
غير أن الصدمة حيال مشهد النار التي أحرقت الطيار الاردني يجب ان لا تعمينا في الوقت ذاته عن النظر الى ذواتنا، والى ثقافة العنف المنتشرة في مجتمعاتنا، والتي لا تقيم أي وزن لحياة الكائن البشري أو لكرامته. طبعاً، نجح «داعش» في صدمنا لأنه اختار تصوير جريمته وبثّها، بدافع اخافتنا وبث الرعب في قلوب مناوئيه. لقد فعل «داعش» ذلك لأنه يعتبر نفسه «دولة» تقيم انظمة الحدّ على معارضيها ومخالفي قوانينها. لكن جماعة «داعش» ليسوا رواداً في مجال التعذيب ولا يستحقون الحصول على «جوائز» في هذا المضمار. فقادة هؤلاء الارهابيين تخرجوا على يد اجهزة ما يسمّى «الامن» في أنظمة القمع العربية. فيها تدربوا على فنون التعذيب وعلى استخدام وسائل العنف في التحقيق مع المعتقلين واغتيال المعارضين. في تلك الاقبية تدرب هؤلاء على ان كرامة الانسان تنتهي عند حدود السجن، وبعد ذلك لا يعود مهماً اذا قضى السجين او المعارض، او من يخالفهم الرأي، بالصدمات الكهربائية او بالغازات السامة، او بتفجير سيارته بأطنان الديناميت، أو بالتجويع حتى الموت.
جرائم «داعش» تصدمنا أكثر لأنهم اختاروا أخذ الوحشية الى ذروتها واستخدموا الوسائل الحديثة ليرعبونا بمشاهدتها. لكن هذه الجرائم يجب ان توقظ ضمائرنا، وأن تذكّرنا ان هناك جرائم أخرى ترتكب في عالمنا العربي، على يد أنظمة لا تقلّ شعاراتها حماساً عن شعارات «داعش»، لكننا نفضل ان نجد تبريرات لها، اذا كانت تناسب مصالحنا.